المشكلات التي ستواجه إدارة الرئيس المنتخب باراك أوباما عند تسلمها مقاليد الحكم لا تقتصر على التحديات الأميركية وإنما تشتمل مروحة واسعة من القضايا الدولية المتصلة بالمال والاقتصاد والطاقة والأمن والتنافس على الزعامة والقيادة. إلا أن العامل الداخلي يبقى هو الأساس في تقرير مختلف الأدوار والوظائف الأخرى المتعلقة بالتحديات الدولية. ونجاح أوباما في تطويع القوة الثلاثية (مؤسسات التصنيع الحربي، شركات الطاقة، وأسواق المال) يساعد إدارته على التفرغ للقضايا الدولية وتلك التحديات التي تواجهها واشنطن على مختلف المستويات. أما إذا فشل أوباما في معركته الداخلية ستدخل الإدارة في مسار صعب يعطل على البيت الأبيض الكثير من الفرص لتصحيح سياسته الخارجية.
التحديات الدولية محكومة بالتحديات الأميركية الداخلية. ونجاح أوباما في ترتيب ملفاته محليا يسهل خططه الخارجية ويفتح أمام الولايات المتحدة الكثير من الأبواب التي أغلقتها إدارة جورج بوش بسبب مغامراتها العسكرية وسياستها الطائشة وإفراطها في استخدام القوة.
هناك تحديات دولية كثيرة تواجه إدارة أوباما وهي في مجموعها تهدد موقع أميركا ودورها التاريخي في قيادة العالم. والتقرير الدوري (يصدر كل خمس سنوات مرة) الذي أعدته هيئة المجلس الوطني للاستخبارات ونشرته الخميس الماضي أشار إلى تراجع مكانة الولايات المتحدة ورجح أن تتحول في العام 2025 إلى دولة تشاركها مجموعة قوى صاعدة في صنع القرار. وانكفاء أميركا من موقع الدولة الأولى إلى مستوى دولة في مصاف المرتبة الأولى من مجموعة دول خلال فترة تقل عن عقدين تعتبر مسألة بالغة الأهمية في إطار لعبة الأمم. فالتاريخ القديم والمعاصر شهد الكثير من حالات الصعود والهبوط. هناك أمم قوية تحولت إلى ضعيفة أو هامشية، وهناك أمم ضعيفة أصبحت قوية، وهناك أمم فاشلة وغيرها واعدة. حركة الصعود والهبوط تاريخية ولولبية وهذا القانون ليس جديدا. الجديد يكمن في المدة الزمنية وطولها العمري. فهناك أمم أرتقت مسرح القيادة لعدة قرون وتراجعت، وهناك أمم اكتفت بعدة عقود وانكفأت، وهناك أمم فشلت في احتلال موقع القيادة لمدة سنوات.
الفترة التاريخية مهمة لتوضيح المفارقة بين قيادة وقيادة ومرحلة وأخرى. وفي الحال الأميركية تبدو فترة الولايات المتحدة مرشحة أن تكون الأقصر في التاريخ المعاصر في حال استمرت سياستها الكونية تتخبط في فوضى الأولويات وتسيطر على إدارتها الاحتكارات العسكرية وطموحها في توريط الدولة في مواجهات دائمة. فالخطر على الولايات المتحدة من الداخل وهذا ما حذر منه الرئيس الأميركي السابق دوايت أيزنهاور قبل يوم من مغادرته البيت الأبيض. الرئيس/ الجنرال نبه الرئيس الديمقراطي المنتخب جون كينيدي في خطابه الأخير وقبل التسليم والتسلم من مخاطر ازدياد نفوذ مؤسسات التصنيع الحربي على الإدارة لما تحمله من إمكانات نمو تأثيرها على القرارات الدولية والسياسة الخارجية.
تحذير أيزنهاور كان صائبا لأن الولايات المتحدة بعد ذاك الخطاب ألاستشرافي تورطت في حروب طويلة وعاشت لحظات استنفار دائمة ما ساهم في تحطيم صورتها وتكسير نموذجها السياسي وتوسيع جبهة الأعداء والخصوم في مختلف أنحاء العالم. الآن وبعد نحو 50 سنة على خطاب أيزنهاور ترتفع في وجه الرئيس الديمقراطي المنتخب التحديات نفسها التي واجهت الرئيس كينيدي حين تسلم زمام المبادرة وفشل في تطويع كارتيلات المال والأسواق والطاقة والسلاح ما دفعه إلى التورط في معارك جانبية وغزوات عسكرية أنهكت إدارته في السنتين اللتين سبقتا اغتياله الغامض والمجهول حتى اللحظة.
هناك مخاطر تواجه أوباما في السنتين الأوليين من عهده وهي تشبه كثيرا تلك العقبات التي حذر منها أيزنهاور وواجهت الرئيس كينيدي في مطلع ولايته. فأوباما مطلوب منه تصحيح علاقات دولية لتذليل العقبات أمام سياسة واشنطن. ولكن إمكانات نجاح أوباما في سياسته الخارجية موقوفة على مدى قدرته على تطويع التحديات الداخلية والسيطرة على طموحات شركات الطاقة وأسواق المال ومؤسسات التصنيع الحربي. فهل ينجح في ذلك أم سيكون مصيره الفشل أم يضطر إلى المساومة ويعتمد منهج الوسط بين التطرف (الحروب) والاعتدال (الواقعية السياسية)؟ الجواب يحتاج إلى مهلة زمنية للتعرف على الطاقم الذي سيختاره أوباما لمساعدته في إدارة الملفات الأميركية والدولية. ولكن معالم الصورة تشير إلى صعوبات كثيرة ستواجه أوباما حتى لو اختار السيدة الأولى ومنافسته على الرئاسة لمنصب وزيرة الخارجية. فالمترشحة السابقة هيلاري كلينتون أقل تشددا في سياستها الخارجية من نائب الرئيس جون بايدن ولكنها أكثر حزما من أوباما في التعامل مع التحديات الدولية. وهذا «الكوكتيل» في المزاج السياسي لا يفرح كثيرا كارتيلات المال والطاقة والسلاح ولكنه أيضا لا يريح مؤسسات الإنتاج المدنية التي تبحث عن أسواق هادئة لتصريف بضاعتها.
من الدرع الصاروخي إلى فلسطين
هناك الكثير من التحديات الدولية وهي في مجملها غير متوافقة على مداخلها ومخارجها ما سيؤدي إلى تضارب مصالح في التعامل معها وخصوصا أن وجهات نظر كلينتون غير متطابقة مع توجهات الرئيس من جانب ونائبه من جانب آخر. على المستوى الأوروبي مثلا تواجه أميركا في القارة مجموعة تحديات تبدأ بنشر الدرع الصاروخي وتهديد موسكو بالرد عليه وتنتهي بخطوط التوتر الأهلي في البلقان (البوسنة وكوسوفو) والقوقاز (جورجيا وأوكرانيا). وعلى المستوى الآسيوي تواجه أميركا في شرق القارة نمو تكتلات اقتصادية منافسة (مجموعة شنغهاي) معطوفة على الملف النووي الكوري وعدم استقرار الدائرة التي تحيط بحلفاء واشنطن (اليابان، تايوان، وكوريا الجنوبية). وعلى مستوى جنوب شرق آسيا تتعرض مصالح أميركا لمجموعة تهديدات أمنية وإقليمية تبدأ بصعود قوة الهند الاقتصادية وتنامي قوتها البحرية واحتمال انبساط نفوذها على دول الجوار. وهذا التطور الإقليمي يفتح بدوره مجموعة ملفات ساخنة تقع على تماس مع خطوط التوتر في باكستان وأفغانستان وامتدادا إلى إيران والعراق ودول الخليج العربية.
قضايا «الشرق الأوسط الكبير» تشكل التحدي الأكبر لأوباما لأنها تعتبر في مضمار العلاقات الدولية منطقة اختبار لمدى نجاح إدارته في التعامل مع ملفات خطيرة وحساسة أخرى. فالفشل في هذه الدائرة التي يطلق عليها «قوس الأزمات» من باكستان إلى فلسطين يعني هبوط الموقع الأميركي دوليا وتراجعه عن ممارسة ذاك الدور الخاص في لعبة الأمم. ونجاح أوباما في هذه الدائرة يعني الكثير من الإشارات لأنها تعطي قوة لإدارته لتصحيح علاقاتها الدولية وتحسين شروطها للتفاوض مع الصين وروسيا والهند على الملفات الأخرى. والنجاح في «قوس الأزمات» يبدأ بشرط وحيد وهو الإقلاع عن سياسة الهجوم البوشية وسحب مشروع تقويض باكستان بذريعة ملاحقة خلايا «القاعدة» في أقليم وزير ستان والسعي إلى فتح قنوات التفاوض مع «طالبان» في أفغانستان لترتيب استقرار أمني بين «الدولة» و«القبيلة».
التحدي الأكبر لسياسة أوباما يبدأ من خطة مشروعه في التعامل مع ملف «الإرهاب» وتعديل استراتيجية تقويض دول «الشرق الأوسط» وإعادة النظر في فكرة نقل القوات الأميركية من العراق إلى أفغانستان. الفكرة سيئة، وتشكل خطوة سلبية في برنامج حربي طويل المدى وقد يكلف الخزانة الأميركية أرصدة مالية غير قادرة على تغطيتها.
مشروع نقل الحرب من العراق إلى أفغانستان خطة مدمرة لبرنامج أوباما الإصلاحي والتنموي ويمكن أن يدخل إدارته في مهالك غير متوقعة تفتح أبواب الحروب الأهلية والإقليمية على جوانب غير منظورة وليست بعيدة عن حقول النفط وخطوط النقل. ومشروع نقل الحرب من بلاد الرافدين إلى حدود أفغانستان - باكستان فكرة محتملة ومطروحة على إدارة أوباما باعتبارها تشكل حجر زاوية في سياسة نائبه بايدن. وفي حال تبنى الرئيس المنتخب تلك الفكرة السيئة فمعنى ذلك أنه تورط أو وافق على تفخيخ سياسته الخارجية باستراتيجية بوش التقويضية.
إلى ذلك هناك ملف «أم القضايا» في «الشرق الأوسط» باعتبار فلسطين تشكل المدخل التقليدي للمشروع العربي وتحتل أولوية في اهتمامات المنطقة من محيطها إلى خليجها. من هذه النقطة يبدأ الضعف الأميركي (عقب آخيل) إذ فيه استقرت تقليديا تلك السياسة الملتوية التي اعتمدتها الإدارات منذ نهاية أربعينات القرن الماضي حتى اللحظة الأخيرة من عهد بوش. فهل ينجح أوباما في كسر حاجز الخوف النفسي ويعبر ذاك الجسر التاريخي وينتقل من منطق أعوج إلى معادلة سلمية وصحيحة؟
الجواب يحتمل قراءات تتراوح بين معجزات وتوقعات وإحباطات ومبالغات. ومهما كان الجواب في الأسابيع والشهور المقبلة فإن مصلحة أميركا وموقعها ودورها وربما مستقبلها المهدد بالتراجع في العقدين المقبلين (كما أشار تقرير المجلس الوطني للاستخبارات) تكمن في تطوير علاقاتها مع الدول العربية والمسلمة. وهذا الأمر لا يتم إلا بشرط واضح وهو تحسين سياستها في التعامل مع المسألة الفلسطينية وإعادة العدالة إلى الميزان.
تحديات أوباما الدولية كثيرة فهي تشمل ملفات لا يمكن حصرها من أميركا اللاتينية وإفريقيا إلى آسيا وأوروبا وروسيا وصولا إلى فلسطين المحتلة والعراق المسلوب. وكل هذه التحديات الدولية مرهونة في عناصرها الرئيسية بمدى نجاح الرئيس المنتخب في تطويع التحديات الداخلية الأميركية المتمثلة في احتواء طموحات أسواق المال وشركات الطاقة ومؤسسات التصنيع الحربي. الرئيس أيزنهاور حذر سابقا الرئيس كينيدي من مخاطرها في اليوم الأخير من عهده فهل ينتبه الرئيس أوباما لطموحاتها في اليوم الأول من ولايته؟ هذا هو السؤال... وبعده لكل حادث حديث
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2270 - السبت 22 نوفمبر 2008م الموافق 23 ذي القعدة 1429هـ