بات ملحوظا وضع التشرذم الذي تعيشه القوى السياسية في مجتمعنا ممثلة في جمعياتها السياسية مقارنة مع مرحلة سابقة هي بداية طرح مشروع الإصلاح وبدء تجربة البحرين الديمقراطية الثانية. حالة التشرذم وقعت لعدة أسباب بعضها فُرض على القوى السياسية من دون إرادتها وبعضها نابع من ذاتها ونتيجة لجوانب تكشف قصورا في أدائها. لقد وجد فيما سبق تحالف رباعي لو نظر لمبدأ التحالفات من زوايا أخرى غير تلك التي حصر حركته وعلاقاته ومواقفه في إطارها لكان أثمر ثمرات يانعة طيبة. ثم وجد التنسيق السداسي الذي وُئد في مهده إما نتيجة لضيق الرؤية ذاتها التي كان يصدر عنها التحالف الرباعي، أو لضعف هاجس العمل الوطني الموحد مما حدَّ من توسيع الدائرة وضيَّع إمكان قدوم قوى أخرى وضيق أفق التوافق على مستويات الحد الأدنى من جوانب الالتقاء والعمل السياسي المشترك بين الجميع.
اليوم لا تحالف رباعي ولا تنسيق سداسي والأمر يقتصر على جهد عدد من الجمعيات السياسية لتنفيذ أنشطة مشتركة كالحلقتين الحواريتين اللتين عقدتا الشهر الفائت وبعض البيانات المشتركة التي تصدر في هذه المناسبة أو تلك. وفي ظل وضع سياسي يتفاقم فيه التحيز والاحتراب الطائفي على جميع الصعد بدءا بما يجري تحت قبة البرلمان وانتهاء بما يحدث وراء جدران المدارس وفي كل مكان، بات ترسيخ التقارب والعمل المشترك بين القوى السياسية ضرورة مصيرية لسلامة هذا المجتمع وحفظ أمنه وضمان تقدمه. بروح الاستقطاب الطائفي أصبح جزءا لا يستهان به من الشارع البحريني مسيسا طائفيا، كما اتسع استقطاب القوى السياسية ممثلة في جمعياتها على اختلاف مشاربها لجموع جديدة ممن أخذ يستهويها الخط السياسي المشرَّب في جزء كبير منه بالنَفس الطائفي الذي تصدر عنه القوى السياسية، فينال حيزا واضحا من اهتمام الشارع ومناقشاته، كما ينال موافقته ويكسب انحيازه.
في واقع كهذا نقول ما أحوجنا للانفتاح على بعضنا بروح تقبل التعدد والتنوع وعدم إقصاء الآخر، بل ما أحوجنا لإحياء الحوارات وعودة التحالفات في إطار واسع وشامل. وإذا كان البعض يرى صعوبة كبيرة في قيام الجبهة العريضة المحققة لتوافقات الحد الأدنى بين القوى السياسية في الظرف الراهن، فأقلها ليتواصل التحرك باتجاهين أولهما الإقدام على فتح حوارات الكل على الكل. فليس من مبرر للامتناع عن الذهاب نحو أية قوة وطنية مهما كانت ومهما كان توجهها والالتقاء بها وفتح حوار معها؟! من غير شك فالحوار سيوفر لغة مشتركة وسيبلور أولويات مشتركة، وليكن البدء من هنا، من المشتركات. القضايا الوطنية والمجتمعية التي يشترك الجميع في الاهتمام بها ليست قليلة وهي مهمة ومصيرية وبنت وقتها.
أما الأمر الآخر الممكن التحرك من خلاله فهو ما هو قائم فعلا من تنفيذ فعاليات مشتركة. العمل المشترك المتفق على تفاصيله كفيل بلم الشمل وبالتقريب بين الفرقاء ما يمهد لتطوير أشكال التقارب ويعززها. وقد خطت أخيرا مجموعة من الجمعيات السياسية بعض الخطوات باتجاه تنفيذ فعاليات مشتركة تمثلت في تنظيم حلقتين حواريتين الأولى عقدت بتاريخ 14 أغسطس/ آب 2007 في ذكرى استقلال البحرين، شاركت فيها جمعيات التجمع القومي، العمل الإسلامي، المنبر التقدمي، الوسط العربي، وعد والوفاق تحت عنوان «14 أغسطس ترسيخا للوحدة الوطنية». وأقيمت الحلقة الحوارية الثانية بتاريخ 30 أغسطس2007 تحت عنوان «حل المجلس الوطني 1975، آثار وتداعيات» شاركت فيها سبع جمعيات سياسية هي وعد، المنبر التقدمي، الوسط العربي، الوفاق، العمل الإسلامي، الإخاء الوطني والتجمع القومي.
الموضوعان اللذان طرحا في الحلقتين الحواريتين مهمان على الصعيد التاريخي وصعيد دراسة التجارب وأخذ العبر، إلا أننا يمكن أن نقول إن الحلقتين الحواريتين كاد أن يغيب عنهما الحوار نتيجة للآلية التنظيمية التي اتبعت في تنفيذهما. لقد كان همّ القائمين على الحلقتين إرضاء الجمعيات المشاركة أكثر من إشراك الحضور في الحوار. بدا واضحا الحرص على أن يكون لكل جمعية ممثلها وراء طاولة المتحدثين الرئيسيين وكذلك الحرص على إعطاء ممثل كل جمعية ما يكفيه من الوقت لإلقاء محاضرة مطولة تؤكد مشاركة الجمعية ووزنها ومكانتها على الساحة المجتمعية. وقد استغرق كل مشارك - إلا ما ندر- ما لا يقل عن عشرين دقيقة في عرض ورقته التي حرص على تضمينها موقف ورؤية جمعيته من القضية المثارة، بل وتخطى بعضهم النصف ساعة. وإذا كان الوقت المخصص للحلقة الحوارية ساعتين فلم يبق أمام جمهور الحلقتين سوى ربع ساعة أو أقل ليناقش ويدلي برأيه.
أين هو الحوار إذا في حلقة حوارية؟ وهل نحن بحاجة لحوار حقيقي موسع تأخذ الجمعيات فيه وتعطي مع الحضور من الجمهور المهتم بالقضية المطروحة، ما سيساعدها على أن تخرج بحصيلة أفكار وآراء تساعدها في تفعيل دورها السياسي، أم نحن بحاجة لأن تظهر كل جمعية وجودها وحجم مشاركتها؟! وما الفرق - في هذه الحالة - أن كانت الجمعيات نفّذت الحلقتين بوجود جمهور أو بعدم وجوده ؟! لقد غلب التعب والملل إن لم نقل النعاس على جمهور الحلقتين وهو جالس في مكانه قرابة الساعتين يستمع ويستمع وفقط يستمع، وحينما حان الربع ساعة الأخير المخصص للمناقشة كان أكثر من نصف الجمهور الحاضر قد غادر القاعة.
حينما نقول حلقة فلذلك معناه وحينما نقول حوارية فلذلك معناه أيضا، وللحلقة الحوارية آليات وشروط حريٌ الالتزام بها بمنح كل من أطرافها الثلاثة دوره وحقه في المشاركة ليتحقق الهدف المرجو من عقد الحلقة. الأطراف الثلاثة أو الأضلاع الثلاثة التي تكتمل بها الحلقة الحوارية هي: الطاولة الرئيسة وتتوزع مهمة من يجلس خلفها بين الإمساك بدفة قيادة الحلقة وتولي مهمة فرش أرضية للحوار وإثارته بمفاتيح أساسية للدخول في التحاور بشأن الموضوع المثار. فإن أتفق وكُلف شخص واحد بإعداد ورقة أساسية تطرحها الحلقة، أمكنه - فيما لا يزيد عن ربع ساعة - أن يطرح أهم محاور ورقته، على أن يكون نصها قد وزع مسبقا على من تم اختيارهم ودعوتهم كمتحاورين. وان كانت الطاولة الرئيسة تضم مجموعة - كما جرى في حلقتي الجمعيات السياسية - فالمطلوب من كل واحد من المجموعة أن يسلط الضوء على محور محدد يفرش به أرضية الحوار حول المحور في فترة لا تتعدى الخمس دقائق ويترك باقي المهمة للمتحاورين.
وهنا نصل لدور الطرف الثاني أو الضلع الثاني في الحلقة الحوارية والذي يتشكل من مجموعة كبيرة نسبيا من ذوي الاختصاص أو الاهتمام الملموس في موضوع الحلقة الحوارية، وهي مجموعة توجه لأفرادها الدعوة بالمشاركة. ويفترض أن يكون أفراد المجموعة المختارة قد تسلموا مسبقا الورقة المطروحة للحوار إن كانت هناك ورقة. أما إن لم تطرح ورقة وتم الاعتماد على ما سيعرضه الموجودون خلف الطاولة الرئيسة من مفاتيح للحوار، فصلب الحلقة سيكون على عاتق مجموعة الطرف الثاني. هؤلاء يتحلقون وسط القاعة كمتحاورين رئيسيين. وعلى إدارة الحلقة الموجودة خلف الطاولة الرئيسة أن تمسك بدفة الحوارات وتسجلها ثم تعلن في ختام الحلقة أهم الآراء المطروحة ونقاط الاتفاق والجوانب المختلف حولها.
أما الطرف الثالث أو الضلع الثالث للحلقة الحوارية فهو الجمهور الحاضر برغبته ومحض إرادته من دون توجيه دعوة له. هؤلاء هم الذين قدموا مدفوعين باهتمامهم الذاتي ورغبتهم الخاصة في المعرفة وفي الوقوف على آخر المستجدات والرؤى المطروحة على الساحة المجتمعية. هؤلاء يجلسون خارج إطار حلقة المتحاورين أو خلفها مستمعين لما يقال متابعين للحوار الدائر. هؤلاء يمكن أن تمنحهم إدارة الحلقة فرصة أو فرصتين - وفقا لظروف الحلقة وما يسمح به وقتها - لإبداء ملاحظة أو طرح سؤال.
لقد أظهرت آلية تنظيم الحلقتين الحواريتين جوانب قصور ليس في آلية تنظيم وتنفيذ الحلقة بل وفي أسس التنسيق والعمل المشترك القائم بين الجمعيات السياسية. عمل مشترك منتج يعني وجود لجنة مشتركة قائمة على تنفيذ الأنشطة المشتركة ليس بمنطق المحاصصة وإفساح وقت وحيز لكل جمعية كي تقول أنا هنا، بل بمناقشة شاملة لموضوع الفعالية يسفر عن اتفاق اللجنة المشتركة على اختيار الشكل الأنسب لتنفيذ الفعالية والأشخاص الأكفأ لتقديمها والمشاركة بها. ما قيمة أن تعد أربع إلى خمس أوراق لحلقة حوارية واحدة يحضرها جمهور يجلس ويستمع لقراءة تلك الأوراق، وحينما يحين آخر وقت في الحلقة يبدأ حوار سريع مبتسر يكون الجمهور حينها قد ملَّ وتنمّلت أطرافه من طول الجلوس وغلب بعضه النعاس.
الآلية المتبعة الآن في تنظيم الحلقات الحوارية وما شابهها من فعاليات جهد لا طائل من ورائه لأن هذه الفعاليات لا تخرج بنتائج ولا يتم تحديد النقاط المتفق عليها في أعقاب الفعالية، وبالتالي لا تتم متابعة ما اتفق عليه ولا توظيفه في العملية السياسية التي تتصدى لها تلك الجمعيات. البقاء على الآلية نفسها سيعزز اقتصار الجمعيات على سماع ذاتها فحسب، وسيصادر حق الجمهور في إسماع رأيه. ولعل في ذلك يكمن بعض من أسباب عدم الفاعلية في الإنجاز وفي التأثير اللذين تعاني منهما جمعياتنا السياسية.
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1835 - الجمعة 14 سبتمبر 2007م الموافق 02 رمضان 1428هـ