في دراساته عن «الفكر العربي» يتحدث ماجد فخري عن ثلاث فئات في تاريخ الفكر الإسلامي وهي: المعتزلة والفلاسفة والمتصوفة. فالمعتزلة قامت برأيه ردة فعل «على النظريات الجبرية المتطرفة» التي اعتبرت الإنسان مسخرا لقوتين: سماوية وزمنية. واعتبر الفلاسفة أنهم ذهبوا أبعد من ذلك إذ لم يكتفوا «بالتذرع بالعقل والاهتداء بهديه، على غرار المعتزلة، بل اعتبروا العقل هو المصدر النهائي لجميع الموجودات والغاية التي يصبو إليها كل كائن». في المقابل تطرق المتصوفة إلى «أحوال أعمق من التجربة الروحية» وآلت بها آخر المطاف «إلى الجهر بالاتحاد أو جمع الجمع» (ص 296 - 299).
هذا التصنيف الذي وضعه فخري وقام على أساسه بعقد مقارنة بين حركة المعتزلة ومدارس الفلسفة وشيوخ المتصوفة لتبيان مدى الاختلاف والتوافق بين الحلقات الثلاث، عطل تلك القراءة التاريخية لتطور كل فريق، وعزل البيئة الثقافية عن دائرة التفكير، وأسقط العامل السياسي ودور السلطة في ترسيم حدود العقل والنقل والإبداع في سيرورة العمل الذهني ونشاطه الميداني. فالفكر في النهاية له وظيفة ولا يأتي من فراغ. ودراسة وظائف الفكر تتطلب قراءة المحيط السياسي/ الثقافي الذي اشتغل في فضاءاته العامة كل من مارس دور النشاط الذهني. ودراسة الوظائف تعني عمليا استعادة دورة الزمن التي عاشها المفكر أو المتفلسف أو المتصوف. فالاستعادة تساعد على تقريب المهشد الزمني وتعطي صورة مكثفة عن تفاعلات الأيام ودورها في صنع الفكرة ومن ثم تأثير الفكرة على الجيل اللاحق.
الأفكار في النهاية لا تختصر بالكلمات بقدر ما تعني من رموز لها مدلولها في زمنها وحاضرها. وحاضر الفكرة لا يمكن عزله عن وظيفتها وما تعنيه الوظيفة من رد على مسألتين: الحاجة والدور.
الفكرة حين تكتب بالكلمات ترسم صورة وظائفية للجواب عن حاجة ما أو للقيام بدور ما وإلا ستكون مجرد كتابة للكتابة ولا معنى لها في سياق التدافع الإنساني والتنافس على أرض الواقع.
في هذا الإطار يمكن قراءة «فلسفة» الكندي التي شكلت في دائرتها الزمنية وظيفة تدافعية وتنافسية كان لها دورها المحدد وجاءت للرد على حاجة معينة. الكندي حاول أن يلعب دوره المستقل إلا أن ظروف السياسة والمشاحنات منعته من أن يستكمل مشروعه الفلسفي فاكتفى بوضع خطوطه العريضة وانصرف لاحقا عن الحياة قبل أن يوضح مخططه العام في صيغته النهائية.
حظ الكندي العاثر لا يلغي دوره الخاص. فهو نصف معتزلي ونصف فيلسوف إذ شكل من حيث لا يدري ذاك الجسر المكسور بين ضفة المعتزلة وضفة الفلاسفة. لذلك اعتبره الباحثون الحلقة الأولى في سلسلة الفلاسفة وليس الحلقة الأخيرة في سلسلة المعتزلة. فمن بعده ستنهض مدارس فلسفة مختلفة في وقت ستتابع مدارس المعتزلة نشاطها في سياق يختلف في حيويته عن فتراتها السابقة. الكندي شكل تلك المنطقة الوسطى بين حركة فكرية أخذت تتأسس (تتفلسف) وحركة بدأت تتبعثر (تنعزل).
فلسفيا اشتغل الكندي على رسم خط فكري موازٍ للمعتزلة. فهو لم ينقلب عليهم لأنه ليس منهم وفي الآن ليس ضدهم. إنه على جوارهم. وهذه «الجوارية» فرضت شروطها الوظائفية على موقع الكندي ودوره. وشكلت له «الجوارية» تلك الأنساق الفكرية التي ظهرت لتلبية حاجات ولتسد فراغات ايديولوجية عجزت المعتزلة عن توصيلها أو التوصل إليها.
يرى جميل صليبا في «تاريخ الفلسفة العربية» أنّ المعتزلة سبقوه في الربط بين الوحي والعقل إلا أنه اختلف عنهم في علومه الرياضية حين استخدم الرياضيات في التحليل والتركيب والترتيب الرقمي والمنهجي. صليبا لا ينفي أن الكندي «يتصل من نواح كثيرة بأئمة المعتزلة» ولكنه «أول من أخذ بمذهب المشائين في الإسلام» وأيضا «أول من تبحر في فنون الحكمة، وأحكم جميع العلوم، وثبت المعاني الفلسفية في ألفاظ عربية دقيقة». (ص 129).
اطلاع الكندي على حقول مختلفة ساعدته كما يقول صليبا على تأسيس منهجية تقوم «على أساس رياضي تمتزج فيه الأفلاطونية الحديثة بالفيثاغورية الجديدة». ومنهج الرياضيات أعطى الكندي القدرة التراتبية «على إبراز فكرة التناسب في كل شيء» ما جعله في نهاية التحليل يتوصّل إلى «تأليه العقل» ورد «الأشياء كلّها إليه» (ص 130). المنهج الرياضي الذي تميز به الكندي جعله يقسّم العقل إلى درجات وأربعة أنواع وكلها تقع تحت سقف الوحي. فالشرع عنده هو الأعلى ومنه تتفرع نزولا العقول الأخرى. والمعرفة عنده هي حصيلة الجمع بين الوحي أولا والعقل ثانيا ولهذا جاءت ظواهر الوجود عند الكندي مرتبطة ومنسقة ومتدرجة من الأعلى (الواحد) إلى الأدنى (التكاثر) وتدل في النهاية على حقيقة واحدة.
شكلت هذه الفكرة نقطة مركزية في حلقات السلسلة الفلسفية التي تأثر بها الفلاسفة المسلمون وحاولوا قدر الإمكان النسج على منوالها. فالجمع بين الشريعة والفلسفة كانت نتاج تلك «الجوارية» السياسية التي وضعت الكندي في مكان واحد وزمان واحد مع فضاءات المعتزلة وخارج سياقها أيضا.
كمال اليازجي يوضح في كتابه «معالم الفكر العربي في العصر الوسيط» حدود تلك العلاقة التي أسس شروطها الكندي حين حاول الجمع بين الشريعة والعقل. فالكندي كما يقول اليازجي قام «بتوسيع الدلالة اللفظية بالمجاز حينا، وبالاشتقاق حينا آخر» (ص 199). وجاءت عملية التوسيع ردا على حاجة وتلبية لوظيفة. فهو اضطر إلى استخدام المجاز والاشتقاق ليعطي المصطلحات المترجمة والتعريفات المنقولة دلالاتها اللفظية في اللغة العربية من دون أنْ يقع في خانة الشرك والإلحاد. وهذا الأمر الذي نجح الكندي في تحقيقه فشل الطبيب الفيلسوف الرازي (أبوبكر) في التوصّل إليه حين اتهم بالكفر والإلحاد.
قوة الكندي اللغوية أسعفته في تأليف مفردات واستخدام مصطلحات كانت قادرة على تمرير الفكرة من دون الوقوع في الشرك. فهو اهتم بتدقيق المصطلحات وتوضيح التعابير الغامضة وتعريف المفردات ليؤسس بعدها تلك الخطوة التمهيدية لمعالجة قضايا الوجود بالدليل العقلي ثم إخضاعها للأصول الشرعية.
إخضاع الكندي الفلسفة لأغراض الشريعة ساعدته أيضا على إعادة قراءة الشريعة عقليا ما أعطاه تلك القدرة على الربط بين الطرفين. فالكون مخلوق من لا شيء (محدث من العدم) ولكنه حادث بإرادة الصانع ونظامه مستمد من حكمته. فهذا الربط الفلسفي (الإيماني العقلي) أعطى نكهة خاصة للفلسفة الإسلامية تميزت تاريخيا بالتوتر الدائم والقلق على العقيدة.
الكندي كما يقول اليازجي آمن بالاستدلال والاستنتاج ودفعه هذا المنهج الرياضي المنظم إلى التأمل النظري في الحقائق المجردة. فالعالم محدث ولأنه كذلك لابد له من محدث (مدبر).
ساعد هذا التنسيق الهرمي الرياضي للأفكار الكندي على وضع علامات فلسفية على طريق طويل وشاق. ونجاحه في تحديد تلك الخطوط العريضة لم يمنع غيره من إعادة المحاولة وتكرارها كما فعل الرازي الذي احترف الطب وكره الرياضيات. فالطب مهنة كيماوية تمزج المواد وتخلطها وهي تختلف عن منطق الرياضيات ولعبة الأرقام وهندستها التراتبية من الأعلى (الواحد) إلى الأدنى (تسلسل الأرقام والموجودات). وهذا الاختلاف في الصنعة (المهنة) أدى إلى سقوط الرازي بالشرك واتهامه بالكفر على رغم أنه تأثر كثيرا بالكندي وأفكاره التي تذرعت بالعقل.
قصة الرازي مع الفلسفة تختلف زمنيا وسياسيا وثقافيا عن الكندي. فالأخير لغوي وابن أمير وحفيد صحابي وصاحب شوكة، بينما الأوّل جاء بغداد من عالم آخر (مفارق) لا يعرف رموزه وإشاراته فسقط في تهمة «المروق» الأمر الذي جرده لاحقا من لقب فيلسوف طمح إليه كما يذكر في سيرته.
الرازي كما يقول فخري «شخصية فلسفية فذة غمطها التاريخ حقها» (ص 60). فمن هي هذه الشخصية القلقة؟ ولماذا صنف هذا الطبيب العبقري في خانة «الإلحاد» في وقت أخذت الفلسفة تشق طريقها المستقل عن مدارس المعتزلة التي دخل شيوخها في لحظة «موات» زمني؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1834 - الخميس 13 سبتمبر 2007م الموافق 01 رمضان 1428هـ