بدأت تتوافد إلى بيروت بدءا من أمس واليوم الوفود الدولية والعربية والإقليمية لمراجعة أو ملاحقة موعد انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية اللبنانية. الموعد المحدد أخذ يقترب ولكن إمكانات تأجيله واردة إذا استمرت التجاذبات السياسية تسيطر على موضوع الوفاق الوطني والتوافق على مواصفات مقبولة لدى الجميع للرئيس العتيد.
وصول الوفود من الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا وإسبانيا وإيطاليا والسودان في وقت متقارب يشير إلى خطورة الوضع اللبناني في حال جاء موعد 25 سبتمبر/ أيلول الجاري ومرّ من دون تفاهم على الحد الأدنى المطلوب لتأخير انفجار الأزمة.
الحد الأدنى المطلوب لمنع انزلاق الأزمة نحو الانفجار يتصل بدرجة معينة بمدى استعداد الوضع الدولي والإقليمي والجواري والمحلي إلى تقبل نتائج التداعيات. فإذا كانت الفضاءات المحيطة بالأزمة تسمح بهذا الاحتمال السلبي، فإن الانفجار يصبح واردا. وإذا كانت لا تسمح فإنّ احتواء الأزمة يصبح من الاحتمالات الأقوى.
نبدأ بالعامل المحلي. محليا دخلت الأزمة طور الانفجار منذ توقف العدوان الأميركي - الإسرائيلي في الصيف الماضي. ولكن تدخل القوى الدولية والإقليمية عطل الاصطدام الأهلي في لحظاته الأخيرة. والتعطيل لا يعني سحب فتيل الانفجار وإنما تأجيل التصادم حتى تأتي فرصة منع حصوله نهائيا. وبعد أكثر من سنة على توقف العدوان لايزال القلق اللبناني على حاله. فهناك معلومات عن تسلح وتدريبات استعدادا لمعركة ما. وهناك تنبه من إمكانات تسلل شبكات دولية تعمل لحسابات إقليمية إلى الساحة اللبنانية. وهناك حذر من وجود خطة اغتيالات وتفجيرات تعرقل اجتماع مجلس النواب لانتخاب رئيس بديل.
كلّ هذه المعلومات الأمنية ليست معزولة عن تلك الحركة الدبلوماسية الناشطة في لبنان وخارجه. فالبطريرك الماروني العائد حديثا من الفاتيكان التقى في عاصمة الكاثوليك البابا وكبار رجال السياسة في إيطاليا وفرنسا وبحث معهم إمكانات التوصّل إلى حل للمأزق الدستوري (السياسي) الذي تمر به بلاد الأرز. وتصادفت عودة البطريرك مع رجوع رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري من الخارج بعد سلسلة اتصالات عربية وأوروبية بحثت الملف اللبناني وموضوع انتخاب الرئيس. ويرجّح أنْ يصدر اليوم أو غدا عن قوى «14 آذار» وأنصارهم ذاك الموقف المتعلق بالمبادرة التي طرحها رئيس مجلس النواب نبيه بري.
مبادرة بري واضحة وهي الدعوة إلى التوافق على انتخاب رئيس وفاقي أو توافقي بغالبية الثلثين (85 نائبا). أي أنْ يكون الرئيس المطلوب محط إجماع وليس طرفا في معادلة الانقسام السياسي القائم الآنَ. فهل تقبل الأكثرية بهذه الدعوة وتتنازل عن فكرة الغالبية النسبية (65 نائبا) أم تتمسك بموقفها وتتجّه إلى انتخاب رئيس بغالبية النصف زائد واحد؟
الجواب تتوقف عليه الكثير من الأمور وخصوصا أنه يأتي في ظل استقطابات دولية وإقليمية تدفع المنطقة نحو مزيد من الاستنفار العسكري والتأهب المخابراتي. والجواب أيضا ليس بالضرورة أنْ يكون لبناني الصنع. فالصناعة اللبنانية مركبة تقليديا من مجموعة عناصر ومواد مستوردة من الخارج. ولهذا يمكن فهم الكثير من التعقيدات والامتدادات الجوارية والإقليمية والدولية في حال أعلنت قوى «14 آذار» موقفها من موضوع مبادرة بري سلبا أم إيجابا.
هذا محليا. المحليات اللبنانية معطوفة دائما على الجوار وموقع القوى الإقليمية ودورها الخاص في التأثير على المعادلة الداخلية. سورية مثلا التي تعرّضت إلى غارة جوية إسرائيلية غامضة أو غير واضحة في أهدافها العسكرية بدأت تراجع الملفات السياسية المطروحة دوليا على الطاولة الإقليمية. والملفات في هذا السياق كثيرة وممتدة من إيران والعراق إلى لبنان وغزّة. والسؤال ماذا استهدفت الغارة الإسرائيلية إذا هي فعلا نجحت في الاختراق الجوي؟ قاعدة إيرانية - سورية في الشمال الشرقي من البلاد أم قافلة محمّلة بالصواريخ والأسلحة كانت متوجّهة إلى لبنان أم قاعدة صواريخ كورية شمالية أم أنظمة بطاريات روسية حديثة مضادة للطائرات أم أنها كانت مجرد مناورة خرقت جدارالصوت بقصد توجيه رسالة للتشويش؟
جدار الصمت
حتى الآنَ المعلومات متضاربة وهناك ما يشبه الصمت الذي يعزز الارتباك وذلك لسبب بسيط وهو أنّ كل هدف أعلن عنه يشكّل بحد ذاته رسالة مختلفة. إلا أنّ المجموع العام لكلّ عناوين تلك الرسائل المتضاربة يشير إلى وجود علامة تحدد البدء في مسار جديد في قواعد اللعبة التي كانت متبعة تقليديا. ولعلها غير مصادفة أنْ يأتي كلام الرئيس السوري لمحطة أميركية بعد يوم أو أكثر من الغارة المفتعلة ليؤكد أنّ دمشق تدعم حزب الله سياسيا فقط وأنها ليست الجهة التي تموّله أو تسلّحه.
اختراق جدار الصوت في الأجواء السورية استهدف نظريا كسر جدار الصمت وتوجيه رسالة لا يعرف حتى الآنَ مدى جديتها أو قوتها، وهل هي تعترض على تجدد التسليح الروسي أم التحالف مع إيران أم موضوع حزب الله أو حماس. توضيح الرسالة يحتاج إلى وقت ولكن مراقبة التجاذبات اللبنانية يعطي فكرة عن الصورة الإقليمية.
المحيط الجواري للبنان ليس بعيدا عن الأقاليم القريبة والبعيدة. وهذا المحيط الجغرافي والسياسي والثقافي يلعب دوره في صوغ التوجهات المحلية والمسارات العامّة في اختيار الرئيس. في العراق مثلا لاتزال واشنطن تتبع أسلوب الغموض في التعامل مع الوقائع الميدانية. وإيران أيضا تنتظر بقلق الاتجاه الأخير الذي سيستقر عليه موضوع «الملف النووي».
أما فلسطين فإنها لاتزال على حالها التقليدية مضافا إليها ذاك الانقسام الذي شطر سلطتها إلى حكومتين. والحال الفلسطينية التي تترقب مدى نجاح عودة الوساطة السعودية تنتظر أيضا مقدار جدية دعوة الرئيس جورج بوش إلى عقد «مؤتمر دولي» في الخريف ومقدار استعداد تل أبيب إلى تقديم تنازلات معقولة ومقبولة وتكون مقنعة لحاجات الشارع الفلسطيني ومتطلباته.
كلّ هذه الفضاءات الدولية والعربية والإقليمية والجوارية ليست بعيدة عن مناخات التأثير المباشر على السياسة اللبنانية ولعبها مجتمعة دور الصانع في اختيار الرئيس. فهذه الساحة الصغيرة مفتوحة ومكشوفة على مختلف الاحتمالات بحكم ترابط الملفات واتصال حلقات السلسلة من طهران إلى غزة. فالملف النووي في أبعاده الإقليمية ليس بعيدا عن التجاذبات اللبنانية. وملف الاحتلال الأميركي للعراق واحتمال تموضع القوات وشرذمة بلاد الرافدين إلى «فيديراليات» طوائف ومذاهب لن يمر من دون انعكاسات على الأرض اللبنانية. وخرق جدار الصوت في الأجواء السورية ترك تأثيراته على شبكة الاتصالات والهواتف ومحطات التلفزة والفضائيات اللبنانية. والانقسامات الفلسطينية وما تعنيه من ترتيبات إقليمية ودولية سيكون لها دورها في سياسة خلط الأوراق والتوازنات اللبنانية.
كلّ خطوة لها حساباتها وانعكاساتها. والساحة المفتوحة والمكشوفة تشكل تلك المرآة التي ترسم بوضوح مدى تداخل الأقاليم وتشابكها الدولي والمحلي. ولعلّ هذا الوضع الخاص يقدّم عيّنة ميدانية لمعنى هذه الهجمة الدبلوماسية على لبنان وعودة الفاتيكان لتلعب دورها التقليدي في المشرق من خلال اعتمادها على فرنسا وإيطاليا.
وصول الوفود الدولية والعربية والإقليمية إلى لبنان للبحث في أزمة انتخاب رئيس جديد للجمهورية لا يعني أنّ موضوع الرئاسة مسألة منفصلة تتم معالجتها خارج فضاءات المحيط الجغرافي والسياسي. فالرئاسة لبنانية (مارونية) ولكنها تمثل رمزية في أبعادها. والصراع الدستوري القائم على نصاب الثلثين أو الغالبية النسبية يعكس في النهاية موازين قوى ويرسم اتجاهات الرياح الساخنة والباردة في المدى المنظور. فالنصاب القانوني يحسمه التوازن السياسي. وحين يكون ذاك التوازن الإقليمي يتعرض لتجاذبات دولية غير واضحة المعالم ستدخل ساحة الرئاسة اللبنانية في فترة صعبة من التنافس الدبلوماسي في انتظار تبلور خريطة طريق في محيط جغرافي غير مستقر.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1833 - الأربعاء 12 سبتمبر 2007م الموافق 29 شعبان 1428هـ