بعد أكثر من خمسين عاما من دعم الأنظمة الديكتاتورية الاستبدادية في العالم الثالث، فاجأت الإدارة الاميركية بزعامة بوش الابن دول العالم قبل عدّة سنوات بمشروع أسمته «مشروع الشرق الوسط الكبير». ولكن بعد عدة سنوات، تغيّر الاسم إلى «مشروع الشرق الأوسط الجديد»، فما الذي تغيّر؟ هل تغيّر الاسم فقط أم الأهداف؟ أم بقيت الأهداف وتغيّرت الوسائل؟
حين ظهر مشروع الشرق الأوسط الكبير، وظهر معه منتدى المستقبل الذي رعته الدول الثماني المتقدمة، صفّق له طويلا الكثير من المثقفين في بلاد العالم الثالث، وعجز عن معارضتهم المناوئون للسياسة الاميركية.أمل الخلاص من الاستبداد السياسي للأنظمة الحاكمة، دفع الكثير من المثقفين بإبعاد نفسه عن مهاجمة حتى دويلة «إسرائيل»، فالمشروع يشمل الشرق الأوسط كله بما فيه هذه الدويلة. ولكون الأمل كان معقودا على هذا المشروع، أصبح مرفوضا التطاول على السياسة الأميركية، وتركها وشأنها مع الدول المعارضة لها، والمارقة عن سياستها. حتى مساوئ المشروع أصبحت مكاسب وحسنات ما دامت ستحقق المعجزة التي انتظرتها شعوب المنطقة أكثر من 150 عاما منذ بزوغ عهد الاستعمار في القرن الثامن عشر، بل قبل ذلك حين كانت الدول الإسلامية تحت الخلافة العثمانية التي انتهت منذ ما يربو على 80 عاما.
بل عولمة الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي حذّر من عواقبها كبار المفكرين، أصبحت مقبولة ويتم الترويج لها - وهما - كمدخل ومقدّمة لمستقبل يخفف الاستبداد السياسي القائم. وهذا الوهم قائم على محاولة محاكاة البدايات التي أطاحت بالنظام الإقطاعي في أوروبا، وجاءت باقتصاد السوق الحر (الرأسمالية)، ومن ثم تقلص دور الاقطاعيين السياسي الذي انهار في نهاية المطاف. وهي محاولة في غير محلها، خصوصا مع إدراك الأنظمة الحاكمة في العالم الثالث للمآرب من وراء تشجيع الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي التي يحث عليها بعض المثقفين، الذين ضاقوا ذرعا بالاستبداد، فقبلوا مشروع الشرق الأوسط الكبير كحزمة واحدة، وأصدر بعضهم بيانات تحدد موقفهم الإيجابي من المشروع.
بعض الاقتصاديين ساهموا في الترويج لمثل هذه العولمة للنظام الرأسمالي الجديد (الليبرالية الاقتصادية الجديدة) من المنطلقات نفسها، مع قصورهم الكبير على مستوى إدراك العمق التاريخي والأبعاد الفكرية، ولا يعرفون سوى أن الغرب متطور اقتصاديا، ولا مخرج من شرنقة التخلف واللحاق به، سوى القبول بما يتحفنا به بعض الخبراء الغربيين. إن الحركة الاميركية لإصلاح الأنظمة السياسية، خلقت زوبعة وتجاذبات ثقافية حاولت تغيير القناعات للتوائم مع الفهم الأميركي للديمقراطية الرأسمالية، حتى ان بعض المثقفين المحسوبين على التيار الإسلامي، حاول ترويج الثقافة الجديدة، ولكن ليس من المنطلق الغربي نفسه القائم على فصل الدين عن السياسة، بل حاول إسباغ قدسية دينية على ما أسماه ثقافة الديمقراطية والحرية، حين حاول الكشف عن عمق ديني إسلامي لتلك الثقافة المبشر بها ضمن حزمة مشروع الشرق الأوسط الكبير.
طبعا لو كانت أميركا جادة في ما أعلنته من أهداف، على رأسها الإصلاح السياسي ونشر الديمقراطية، لقلبت الطاولة على كل المستويات، بما فيها المستوى الثقافي الذي حتما سيتأثر بالتغييرات السياسية ولو بشكل مؤقت وربما طويل الأمد أيضا، وستتأثر شعوب المنطقة بالموقف الأميركي ومن ثم بالثقافة الأميركية. غير أن الأحداث أثبتت أن الهم كان اقتصاديا بالدرجة الأولى، فهناك أزمة قادمة، وعولمة الليبرالية الجديدة اقتصاديا سيحول دون الوقوع فيها. الولايات المتحدة تعرف أن السبيل لبقائها متربعة على عرش العالم والقطبية الواحدة، يتطلب منها البقاء قوية اقتصاديا، حتى يمكنها الاستمرار في تغذية قوتها العسكرية وفرض شروطها السياسية في علاقاتها مع دول العالم، وإبقاء قواعدها العسكرية في الخارج، وإرهاب الدول المارقة عن سياستها واستراتيجيتها. لهذا لا تخيف أميركا التجارب الروسية، ولا تسيير طلعات القاذفات الاستراتيجية العابرة للقارات، فأميركا تعلم جيدا قصر نفس الاقتصاد الروسي العاجز عن تغذية التحركات العسكرية.
لقد كانت أميركا في طريقها لجعل العراق نموذجا ديمقراطيا يحتذى به، ولكن في مقابل إدماجه في الاقتصاد الأميركي والسيطرة على إمكاناته. ولو نجحت أميركا في هذا المسعى، لكان احتمال حدوث تغيير جذري على المستوى الثقافي في شعوب دول المنطقة غير مستبعد، وهو المفتاح الذي يضمن تحقيق المصالح الاقتصادية الأميركية على مدى بعيد. فشل أميركا في العراق، جعلها تستبدل وسائلها من أجل تحقيق الأهداف الاقتصادية نفسها، فقفلت ناكصة على عقبيها، والتجأت مرة أخرى لسياسة دعم الأنظمة الاستبدادية والتي قبلت بالجزء الأهم من المشروع الأميركي، وهو الجزء المتعلق بنشر الحرية الاقتصادية متمثلة هذه المرة في الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي بدأتها مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان في بداية الثمانينات، والاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وفقا للرؤية الجديدة، وفتح الأسواق أمام الشركات متعددة الجنسيات، ورفع الحماية الأبوية عن الإنتاج الوطني، وعن العمالة الوطنية، وفتح البورصات وأسواق الأسهم وجميع أنواع النشاط الاقتصادي المحلي أمام رأس المال الأجنبي.
وهكذا تم إهمال الإصلاح السياسي ودمقرطة الأنظمة القائمة، والتركيز فقط على حرية التجارة الدولية، والحرية الاقتصادية، بل اعتبار الرأسمالية المحلية المقربة من الطغم الحاكمة، الطريق الأمثل لتحقيق التنمية الاقتصادية.الولايات المتحدة غيّرت أساليبها فقط، ولكن الأهداف واحدة، فقد أهملت نتيجة اليأس، الإصلاح السياسي ونشر الديمقراطية كمدخل يمكنها من إحداث تأثير عميق على المستوى الثقافي لشعوب العالم الثالث عموما والإسلامي خصوصا، والذي لو حصل لأمكنها من تحقيق أهدافها على المدى البعيد، وضمن لها استدامة حفظ مصالح شركاتها العابرة للقارات. واكتفت حاليا بالرجوع للسياسة القديمة التي بدأتها بالذات بعد الحرب العالمية الثانية، من رعاية للأنظمة الاستبدادية، واعتبارها صديق رأس المال الأميركي. وفي سبيل الهدف الاقتصادي لإنقاذ الاقتصاد الأميركي كما يرى بعض المفكرين، بجانب أهداف استراتيجية أخرى تتعلق بأمن «إسرائيل»، تبدلت الوسائل، ومن هذه الوسائل بجانب رعاية الأنظمة المستبدة، أن الإدارة الأميركية تعمل حاليا على إشعال نار الفتنة بين السنّة والشيعة.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1832 - الثلثاء 11 سبتمبر 2007م الموافق 28 شعبان 1428هـ