قبل أربع سنوات التقينا آخر «شبح» صغير على ساحل رملي من سواحل ديلمون ولعبنا معه قليلا، صورناه «صورنا معه»، قبل أن نتركه يرحل بسلام ويختفي داخل الرمل حامدا الله على النجاة وهو لا يدرك أنه لم يكن في الواقع يواجه أي خطر معنا وأن التهديد الحقيقي قادم له لا محالة إذ قوض ساحله على رأسه ودفن آخر ساحل بحري - رملي طبيعي في البديع ليموت «شبح» وكل السرطانات البديعة وتنتهي آخر «مدينة» لسرطان الشبح في ذلك الساحل البديع.
تزور سواحلنا ليلا وقرب الفجر (أو ما تبقى منها وما صارت إليه) فلا تسمع أغاني سرطان الشبح ولا تلمح براءته وهو يركض بين حجر وآخر ولا تشاهد له خطوات سريعة وهويلعب مع الموج ويركض بخطواته الطفولية المضحكة.
كل ما ستشعر به على سواحلنا هو الوحشة وبدلا من مدينة كمدن سرطانات الشبح، ستشعر بأشباح الخراب والدمار والموت تحوم في كل مكان.
عصر يوم السبت وقفت لجنة ريم (قادة البيئة الصغار) بجمعية أصدقاء البيئة على ساحل البلاج وقدمت مسرحية قصيرة عن الساحل (لم تخلُ من ذكر سرطان الشبح) ويشارك في تمثيلها عشرون طفلا من أعضاء لجنة ريم وأشرف على تدريبهم شابات وشبان الجمعية.
المسرحية كانت رسالتها قوية جدا وواضحة (سواحلنا لنا).
أطفال البحرين يريدون أن تبقى سواحلهم لهم إرثا للأجيال، وأطفال البحرين الذين لم ينتبهوا لخسارة سواحلهم وقفوا أمام الساحل الأخير وأدركوا أنه لو أخذ منهم فلن يبقى لهم شيء.
عملية إدراكهم لما وقع مرت بمراحل ابتداء من عدم المبالاة ومرورا بالاستهزاء بالقليلين الذين انتبهوا ونبهوا ووقوفا عند ملاحظتهم لظواهر غريبة مثل «اختفاء السلس النطاط» و«غياب صوت غناء الطيور» و«تغير الجو» وصولا إلى غضب البحر وامتناعه عن الاستنجاد وبداية اليأس وإطباق الحزن والذي يتغير ببطء عبر تذكر البيئة وأهميتها وواجب الأطفال تجاهها انطلاقا من واجبهم تجاه الوطن: (البيئة ديرة هلي عز نصونه دوم) و(البيئة أنت وأنا أمسي وغدي واليوم).
ليتحول الإدراك والفهم إلى أمل ومن ثم عمل موحد للتصدي لتدمير الساحل الأخير.
الكلمة التي ألقتها «غادة» عضوة لجنة ريم كانت بسيطة ومؤثرة بأسلوبها الجميل للإلقاء المميز للقادة البيئيين بجمعية أصدقاء البيئة، أسلوب يجمع القوة والثقة مع المشاعر الواضحة والإيمان.
الفعالية استغرقت نحو الساعتين واستغرق الإعداد لها قرابة الشهر متضمنا لكتابة المسرحية والتدريب عليها، لضيق الوقت والموارد لم يتم تلحين وأداء النشيد الجديد للجمعية الخاص بالسواحل ولكن أعضاء لجنة ريم أدوا وبكل فخر النشيد البيئي الذي علمته الجمعية لاعضائها على مدى سبع سنوات.
على ساحل آخر مختلف تماما عن «بلاج الجزائر» مساحة وموقعا وحتى في اسم «البحر» الذي يحتضنه، كنت أصور تلال «شبح» وأطارد بعض تلك الكائنات الصغيرة لالتقط أكبر عدد من الصور الثابتة والمتحركة له كي أعود بها لأعضاء لجنة ريم الذين لا يعرفون عن شبح إلا ما عاشوه معنا من مشاعر ونحن نتحدث عنه، لأنقل لهم يوميات من حياة «شبح» الذي تعهدوا ضمن التزامهم «كقادة بيئيين صغار» بالتعريف بشبح وإبقاء ذكراه حية وبذل كل ما يستطيعون لانقاذ أية بقية باقية له.
عندما وقفت لتقديم ورقتي عن «السياحة البيئية» في ندوة وورشة السياحة البيئية في «صلالة» بدأت بعرض صور «الشبح» صورعمانية في البداية ثم صورة لـ «الشبح» البحريني الاخير وهو في يد زميلي في جهادنا البيئي محمد كاظم محسن الذي امسكه ثم أعاده إلى بيئته وهو يتساءل هل سيدرك أنني لم اقصد ايذاءه؟
العمانيون ابتسموا لمرأى «شبح» وعلقوا كثيرا على تلك المقدمة غير التقليدية للمحاضرة البحرينية وسألوني عن أهميته بيئيا وسياحيا.
كثير ما يتداول من أحاديث بيني وبينهم ولكن أهم ما قلته لهم: وجود سرطانات الشبح دليل على أنكم مازلتم تملكون سواحل رملية آمنة... «شبح» كما هي بيئة سلطنة عمان الثرية المتنوعة (جنة الخليج الباقية) هي أمانة في يدكم... انظروا لنا وتعلموا من دروسنا القاسية...
إقرأ أيضا لـ "خولة المهندي"العدد 1832 - الثلثاء 11 سبتمبر 2007م الموافق 28 شعبان 1428هـ