غدا تمر الذكرى السادسة لهجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. وحتى الآنَ لم يكشف «السر». مَنْ افتعل تلك الهجمات؟ مَنْ سهل نجاحها؟ مَن المستفيد منها؟ لمصلحة مَنْ ارتكبتْ؟ ومَنْ هي الجهة التي تجاهلت التحذيرات؟ ولماذا مخابرات «الموساد» الإسرائيلية كانت على علم بوقوع هجمات؟ وما هو السبب الذي دفع إدارة جورج بوش إلى الاستهتار بذاك التقرير الذي يُقال إنه وضع على طاولة «البيت الأبيض» وحذر من وقوع هجمات قبل أسبوعين من حصولها؟
أسئلة هي أقرب إلى ألغاز. والرد عليها بوضوح يساعد إلى حد ما، على اكتشاف ذاك «السر» أو تلك «الإسرار». حتى الآنَ لاتزال الإدارة مترددة في كشف كل الأوراق ويرجّح أنْ تستمر في سياسة الصمت ؛ لتأتي تلك اللحظة بعد فوات الأوان.
الأسئلة لا تعزز نظرية «المؤامرة»، ولكنها لا تلغيها. فالمؤامرة فرضية. وكلّ فرضية قد تكون صحيحة أو خاطئة. وبما أنّ الاحتمالات كلّها مفتوحة فلابدّ أنْ تبقى الأسئلة مطروحة حتى تكتمل الصورة بأجوبة واضحة وموثقة ودامغة.
وبانتظار أن تتوضح معالم خريطة الطريق التي تكشف حقيقة ما حصل ومجرى الوقائع الميدانية يبقى النقاش بشأن هجمات سبتمبر يتركز على السياسة التي اتبعتها إدارة بوش المحكومة آنذاك بأيديولوجية تيار «المحافظين الجدد». فالسياسة يمكن أنْ تساعد على قراءة استراتيجية اتسمت بالغضب وردة فعل ثأرية ضد عالم عربي/ إسلامي يمتد على قارات ثلاث. فالاستراتيجية الثأرية والغاضبة التي اتبعتها إدارة بوش رسمت تضاعيف أيديولوجية حاقدة وكارهة وعنصرية ضد مليار من سكّان الكرة الأرضية.
الولايات المتحدة في تلك اللحظات لم تتصرف كدولة كبرى مسئولة وإنما تحركت في فضاء انتقامي، الأمر الذي أظهر صورتها مشوشة وغير قادرة على استيعاب الضربة. وحين تتحوّل دولة كبرى إلى قبيلة تصبح إمكانات السقوط في الأخطاء واردة. وبسبب ردة الفعل المنفعلة فقدت الإدارة توازنها وانجرفت تضرب يمنة ويسرة مطلقة شعارات تهديدية وتخريبية وتقويضية. ولم تتردد واشنطن في تلك الفترة في إرسال إشارات عنيفة تجاوزت الحدود الدبلوماسية والمشاعر الدينية. فإدارة بوش تعاملت باحتقار مع العالم الإسلامي وحاولت عزل المسلمين عن العالم بذريعة أنّ ثقافة الإسلام تشجّع على العنف والإرهاب وتنشر الكراهية وتزعزع أمن البشر واستقرارهم.
هذا الأسلوب العشوائي في التعاطي مع الشعوب الإسلامية طوّر المواجهة ورفعها إلى حد غير مسبوق في درجة العداء لديانة سماوية ساهمت في صنع تاريخ البشرية ومن دون انقطاع على امتداد 14 قرنا.
أدى الاستنفار الإعلامي ضد الإسلام والمسلمين إلى توليد ردود فعل ومخاوف مفتعلة كادت أن تدفع نحو مواجهات دينية تعيد ذكريات القرون الوسطى. كذلك ساهمت تلك الحملة التحريضية في تشكيل وعي مضاد للمسلمين أنتج لاحقا مجموعة تصريحات بذيئة ورسومات مسيئة وإهانات مباشرة للمقدسات والمحرمات.
إلا أن موجات التجييش المقرونة بإرسال قوات لاحتلال أفغانستان وغزو العراق اصطدمت بتعقيدات الواقع فاكتشفت واشنطن متأخرة أنّ الحرب على الإسلام تختلف شروطها السياسية عن تلك «الحرب الباردة» التي خاضتها بنجاح ضد الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي.
هذا الخطأ الفادح في التقدير بعثر حسابات الولايات المتحدة وكاد أنْ يؤدي إلى قلب الطاولة عليها دوليا. فأميركا اكتشفت في الميدان أنها دولة صغيرة في مواجهة الإسلام والعالم الإسلامي ومداه الجغرافي والتاريخي والثقافي والبشري. فهذه الأبعاد الموضوعية لمساحة ممتدة في الجغرافيا والتاريخ يترتب عنها مجموعة شروط يصعب السيطرة عليها من خلال تكثيف الحملات الإعلامية وإطلاق الأبواق التحريضية والانقلابية. فالإسلام ليس أيديولوجية سياسية أو فلسفة اجتماعية كما كان حال «الشيوعية» في أوروبا الشرقية. وبالتالي فإنّ الوسائل التي استخدمتها الولايات المتحدة بنجاح ضد العالم السوفياتي ليس بالضرورة أنْ تصيب النجاح نفسه في حال أعيد استخدامها ضد الإسلام والمسلمين.
هذه الحرب الأيديولوجية أو الثقافية أو «حرب الأفكار» كما قال عنها مرة وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد اصطدمت بالواقع وفشلت في تحقيق أغراضها ولم تنجح في كسب الأصدقاء على رغم إنفاق مئات الملايين من الدولارات عليها.
معركة الأفكار
خسارة أميركا معركة «حرب الأفكار» تشكّل المفتاح السحري لمعرفة فصول الحكاية وتلك المغامرات الطائشة التي انزلقت إليها إدارة مهووسة بجنون العظمة والاستخفاف بدول العالم وعدم اعتبارها له أو أخذ توازن المصالح في حسابات الأمم. الفشل في صراع الأفكار يعطي عينة صغيرة عن تلك النهايات غير السعيدة التي بدأت تواجه إدارة بوش وزمرة تيار «المحافظين الجدد». فهذه الزمرة تشبه «القنبلة العنقودية» فهي أخذت بالانفجار واحدة بعد أخرى وبدأت بالتهرّب من مواجهة الحقائق والتنصل من المسئولية والهرب من إدارة «البيت الأبيض» قبل أنْ تنقشع الغيوم وتنكشف الوقائع الميدانية.
مضت الآنَ ست سنوات على هجمات سبتمبر وأخذت نتائجها تنقلب على إدارة بوش. وباستثناء الدمار وتحطيم البنى التحتية وتقويض الدول والسلطات والمؤسسات لم تنجح واشنطن في التقدم خطوة حاسمة باتجاه فرض تلك الاستراتيجية الكبرى. فالإدارة حطمت أفغانستان وزعزعت سلطة عرفات وقوّضت العراق ودمّرت البنى في لبنان وأضعفت الدولة وأخرجت الطوائف والمذاهب والعشائر والقبائل من زوايا علاقات الاجتماع الأهلي وفتحت الأبواب لتنشر شبكات التكفير والتطرّف من كابول إلى بغداد وبيروت وصولا إلى غزّة والصومال ودارفور وغيرها من مساحات العالمين العربي والإسلامي إلا أنّ كل هذه «الفوضى» لم تقوَ على تأسيس قاعدة ثابتة تشكل للولايات المتحدة ذاك الملاذ الآمن لسياستها الدولية.
هذا الانغلاق الذي أحاط بالسلوك العام لإدارة «المحافظين الجدد» يمكن ربطه بذاك الفشل في معركة الأفكار. فمن يخسر المعركة فكريا يخسرها سياسيا؟ وهذا الأمر حصل مع أيديولوجية المعسكر الاشتراكي. فحين خسرت «الشيوعية» معركتها الفكرية بدأت أميركا تكسب حربها السياسية. وهذا لم يحصل مع الإسلام والعالم الإسلامي. والسبب يعود إلى اختلاف طبيعة المعركة والشروط الموضوعية والذاتية التي ترسم تلك العلامات المفارقة بين حربين. فالإسلام يمتلك ذاك التاريخ الذي تضرب جذوره عمق العلاقات الاجتماعية وما تعنيه من تراكمات ثقافية تأسست على عقيدة دينية. ولهذه العوامل المجتمعة يمكن فهم الأسباب التي تقف وراء تساقط قنابل «المحافظين الجدد» العنقودية وفرارهم من إدارة «البيت الأبيض».
الآنَ وبعد مضي تلك السنوات على هجمات سبتمبر جاء دور الحساب. فهناك على طاولة بوش أوراق تقرير «لجنة المحاسبة» التي تشير إلى أنّ واشنطن نجحت في تحقيق ثلاثة أهداف من أصل 18 هدفا. والكونغرس الذي سيناقش تقرير «لجنة المحاسبة» إلى جانب استماعه إلى تقرير آخر سيعرضه قائد قوات الاحتلال في العراق بعد يومين سيواجه وقائع ميدانية لا يستطيع إنكارها أو تجاهلها أو التعامل معها بخفة ايديولوجية.
سبتمبر يبدو من الشهور السيئة الطالع على بوش. فهو شكل مناسبة في 2001 للإعلان عن استراتيجية التقويض ضد الإسلام والعالم الإسلامي، وهو الآنَ يشكل بداية محاسبة لمجموع أخطاء تراكمت على امتداد السنوات الست.
قد تحصل المحاسبة وقد لا تحصل. قد تتطوّر المحاسبة إلى محاكمة لاحقا وقد لا تتطوّر. قد يتراجع بوش عن استراتيجيته وقد يغامر ويتقدّم. كلّ الاحتمالات واردة ومفتوحة، ولكن الظاهر من المعركة التي لاتزال فصولها غير مكتملة وواضحة أنّ أميركا كما قال رامسفيلد سابقا بدأت تخسر «حرب الأفكار». ومَنْ يخسر فكرته في الحرب لا يستبعد أنْ يخسر حربه في السياسة.
هناك أسئلة كثيرة تدور حول «هجمات سبتمبر» وهي أقرب إلى الألغاز، ولكن لحظة كشف الحقائق بدأت تقترب ولابدّ من فضح سر تلك «المؤامرة» التي بررت اندفاع واشنطن للدخول في مغامرة كبرى وبعقلية ثأرية وانتقامية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1830 - الأحد 09 سبتمبر 2007م الموافق 26 شعبان 1428هـ