أمام صعود نجم تيارات «الإسلام السياسي» على الميادين الشعبية وفي ساحات الحراك الاجتماعي السياسي في المنطقة وما يرافقه من تقلص ملحوظ في شعبية التيارات اليسارية والقومية على صعيد إقليمي، وإن اعتبر بعض أبناء هذه التيارات والناطقين إعلاميا وترويجيا باسمها بأن مثل هذا الصعود السياسي إنما يمثل عودة من الناس إلى دين الله وإلى كلمة الحق ونور الهداية إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، فإن مثل هذا الصعود في بعض الأقطار ذات التركيبة الاجتماعية التعددية والفسيفسائية ومنها قطرنا البحريني على وجه الخصوص لربما ساهم بشكل خطير في زيادة الشحن الطائفي، وأدى إلى حدوث اضطرابات وأزمات خطيرة تهدد اللحمة الوطنية لصالح التحزبات السياسية العمياء والانتكاسة إلى الولاءات الأولية ما أدى إلى طأفنة الحراك السياسي والاجتماعي وحتى العمل الخيري والتطوعي في بلادنا فيما يشبه الظاهرة التي دونها لا يمكن أن يصح الصحيح ويستقيم الأعوج، وينل هذا العمل أكان سياسيا أم اجتماعيا خير القبول والجزاء مجتمعيا.
وفيما يتعلق بهذا التنامي الطبيعي في شعبية تيارات «الإسلام السياسي» بشقوقها السنية والشيعية في المنطقة، وبالأخص بحرينيا وما تسبب به هذا التنامي والهيمنة بصورة إقصائية على الخطاب السياسي الشعبي وهو ما يتأقلم مع شروط مرحلية تاريخية ما جعلنا في طور حقبة مذهبية وطائقية خالصة بعد حقب يسارية وقومية، فإننا قد نتفق ولو نسبيا مع القائلين بصعوبة وربما استحالة أن تساهم جديا التيارات السياسية الدينية في مواجهة الطائفية وتقليم أظافرها التي تنخر من جسد المجتمع والوطن ليس فقط لطبيعة التكوين وفطرته التنظيمية لهذه التيارات، وإنما أيضا لأن الكثير من كوادر وقيادات هذه التيارات إن لم تكن مجملها لطالما أثبتت ولو برلمانيا بأنها خير من يبتلع الطعم السياسي قبل غيرها من أفراد وجماعات، وخصوصا إذا ما كان هذا الطعم السياسي برائحة طائفية نفاذة!
لذلك فإن علامات الحقبة المذهبية أو بالأحرى «الطائفية» ذات النطاق الإقليمي والتي يمر بها مجتمعنا ومجمل حراكنا السياسي وهو ما تؤججه أخطاء وخطايا التيارات السياسية الدينية أكانت شيعية أم سياسية أكان بأمية سياسية منها وتشابك في الرؤى أم لغرض في نفس يعقوب، فإن القبول بحكم الواقع والمنطق لربما يشير إلى أن يكون المخرج والبديل الإنقاذي ممثلا في التيارات التقدمية ذات النبرة الوطنية أو ما يطلق عليه بـ «التيار الوطني الديمقراطي» التي لربما كانت ولا تزال أقل التيارات عرضة لإشعاعات «الحقيقة» أو «اليقين المطلق» في ميدان العمل السياسي، على العكس من التيارات الدينية السياسية بأرديتها الطائفية التقسيمية التي يراها خطاب التيارات اليسارية بأنها انتكاسات رجعية تعرقل التقدم والتطور إلا البعض أخيرا وهو أحد قدامى ذئاب اليسار أو هو فرد سياسي بصيغة الجمع الكوني رأى في هذه «الطأفنة» بمثابة العامل الضروري والأساسي والرافعة الشعبية التي لا بد منها لإنجاح العمل السياسي وصيانة الوحدة الوطنية!
إلا أن مثل هذا التعويل والانتظار من قبل الحريصين على الوحدة الوطنية والنابذين والمتخوفين من شرور وشرار الطائفية لا ينبغي أن يكون مؤديا إلى تعال نخبوي فارغ أو أن يكون غشاوة تحجب رؤية الأخطاء والخطايا الداخلية والنواقص التنظيمية والخطابية وأزمات الوعي الاجتماعي العام التي أدت إلى تراجع وتقلص فاعلية هذه التيارات التقدمية ضمن السياق الشعبي والمجتمعي، فنقد الذات بلا هوادة وغربلتها ونخلها اجتماعيا وسياسيا لابد وأن يكون هو أول الخطوات الضرورية وهو أمر متعارف عليه في جميع أدبيات التيارات التقدمية وإن وجد هناك المحافظون والمتشددون المحاربون للتغيير في صفوف تلك التيارات التقدمية!
ولعل أول ما ينبغي على أبناء وكوادر وقيادات هذه التيارات أن تدركه هو أن عملية التغيير المنشودة أكان مثل هذا التغيير يطمح إلى صون الوحدة الوطنية ولم شتات مختلف الأطراف والأجزاء لا يمكن أن تتحقق أبدا بانفصال وطلاق بين هذه التيارات من جهة والمحيط والأرضية القيمية والاجتماعية الشعبية وما تتميز به من خصائص عامة أو مميزة، فلا بد أن تدرك هذه التيارات خصائص مجتمعها وأطوار وعيه ومستوى إدراكه السياسي المرحلي، وإن كنا لا نود أن تفهم دعوتنا هذه بأنها تأتي بغرض التحريض والتحبيذ على جعلها أبواقاَ شعبوية لا أكثر ولا أقل، وإن كنا لا ننكر وجود تحركات إيجابية نحو الانفتاح على المجتمع وتوسيع القنوات والأوردة معه إلا أن مثل هذه التحركات لا تزال دون المستوى الحقيقي والمطلوب!
ولعل من أبرز ما أهملته هذه التيارات اليسارية التقدمية في مجمل خطاباتها ودعواها الإصلاحية وإن ذكره البعض على مضض وخجل هو التقاعس عن التطرق بشكل جاد وحازم إلى موضع صيانة أخلاق المجتمع وقيمه المستمدة من مختلف المصادر الشرعية أم الوضعية والمحافظة عليها، وهو أمر قد لا يختلف عليه الكثير من صفوة قيادات وكوادر هذا التيار ومن بينهم المناضل الوطني عبدالرحمن النعيمي (شفاه الله) والذي لطالما أكد على أن الجانب المتعلق بحماية أخلاق وقيم المجتمع لابد وأن يكون الأساس لجميع الدعاوى الإصلاحية المطالبة للتصدي للفساد وغيرها من ظواهر ذات منشأ انحلال قيمي وأخلاقي، إلا أنه لا ننكر بأن بعض عناصر هذه التيارات تتحفظ على اعتماد هذا الجانب معتبرة إياه بأنه تدخل وصائي ينتهك الحرية الشخصية أو الحرية الفردية التي يقدسونها أكثر من الحرية العامة أو المصلحة العامة، وبالأخص العناصر التي اشتهر عنها تبديل جلدتها السياسية ألف مرة في العام الواحد.
فكان الجانب الموجود على حياء أو مجاملة في خطابات بعض التيارات التقدمية هو الفجوة والفراغ الذي سمح للتيارات السياسية الدينية أن تسعى وتتوهم احتكاره بالكامل والنطق باسمه، فكأنما هي حارسة الفضيلة ونائبة الله على خلقه (والعياذ بالله)، وهو ما أدى في المقابل إلى إعتام سلبي على صورة هذه التيارات التقدمية في الوعي المتخيل أو الحقيقي للمجتمع التقليدي المتسم بالمحافظة والانضباط بغض النظر عن ما يختلج في أكنافها من انفصام!
ونحن دون شك لا ندعو أبناء هذه التيارات إلى إطلاق اللحية وتقصير الثوب أو لبس العمامة والبشت واستخدام السواك والمسبحة أمام الملأ، كما أننا لا ندعوهم لتأسيس هيئات يسارية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما ندعو لأن تكثف هذه التيارات حضورها المجتمعي الفاعل في المناداة بالمحافظة على أخلاق وقيم المجتمع وإصلاحها والدعوة لاحترامها، كما أننا ندعو لأن تساهم كوادرها السياسية والاقتصادية المتميزة في تقديم القراءات العلمية والموضوعية الاقتصادية والسياسية المتعددة الأبعاد والتي تسببت في إحداث الانحلال الأخلاقي كـ «الدعارة» و»المخدرات» وغيرها، وهذه القراءات العلمية هي ما يفتقده الشارع والجمهور في مقابل ابتذال دعوات التطهر والتشكيك في النوايا والإفراط في محاسبة الذات بانفصامية حضارية!
وإلى جانب إهمال أو تجاهل الجانب المتعلق بالمحافظة على أخلاق وقيم المجتمع الأصيلة وصونها، فإن التقصير الكبير في الجانب المتعلق بالعمل الخيري من قبل التيارات اليسارية والتقدمية ساهم كثيرا في فتح الفجوات والتسبب بفراغات أدت إلى إبعاد هذه التيارات عن المجتمع المصاب بالفقر المعيشي والسياسي وبناء الحواجز بينها، ففي الوقت الذي يعاني فيه المواطن البحرين أشد أنواع المعاناة جراء ظروفه المعيشية البائسة التي تزيد من الضغط عليه إلى جانب بؤس سياسي ومعرفي وفكري، فإنه من الطبيعي أن يكون العمل الخيري في ظل هذه الأوضاع الحالية بمثابة الغيث والعون والمنقذ ولو مؤقتا وسطحيا ولو أنه لا يلامس مفاصل صناعة الفقر والبؤس تلك ويضع حدا لها، كما أنه من المقبول منطقيا أن يكون هذا المواطن بحاجاته المتواضعة أسيرا للصناديق الخيرية المطأفنة، وأسيرا للجان الخيرية في الجمعيات الدينية السياسية المهيمنة على مثل هذه الساحة بسبب ندرة وجود التيارات التقدمية واليسارية في هذا المضمار، وهو ما يزيد الطين بلة.
فإن كنا لا ننكر الجهود التوعوية الكبيرة لهذه التيارات في هذا المضمار، ودعمها للعمل النقابي وتسليطها الضوء على القضايا الوطنية الكبرى كقضايا المعيشة والتوزيع العادل للثروات والقضايا الإسكانية كما دأبت عليه جمعية «وعد»، إلا أن استمرار تناول هذه القضايا الكبرى نظريا وبرؤى بعيدة المدى لا يبدو في الأفق المنظور بأنها بصدد الانكفاء والحل من الأعلى أو من الأسفل من دون النزول إلى الشارع والتخفيف ولو رمزيا من معاناته عبر المساهمة في تعزيز التكافل الاجتماعي والبذل والعطاء الخيري في سبيل تحقيق التنمية الاجتماعية، ما يؤدي بهذه التيارات أن تحشر في ذهن المجتمع المضغوط معيشيا والمحتبس فكريا وسياسيا في خانة صناعة «التنظير» و»الشعارات» التي لم تغير من الحال شيئا.
إن النزول إلى الشارع والدخول في مضمار العمل الخيري والارتكاز على أولوية العمل الاجتماعي المنجز قبل التحرك السياسي المبادر لربما يكون ذو جدوى اجتماعية أكبر في صيانة الوحدة الوطنية للمجتمع من عدة محاضرات ومؤتمرات نخبوية تحذر من خطر الطائفية أو اجتماعات تناقش «الفقر» بالأرقام والصور.
فلو أطال الله في عمرنا هل نرى صندوق «وعد» الخيري أو لجنة «وعد» الخيرية أو مكتب «وعد» للتنمية الاجتماعية على سبيل المثال، وجميعها تساهم في كسر طائفية العمل الخيري في البحرين وتواصل نضالها السياسي الوطني انطلاقا من القاعدة الاجتماعية الدنيا والعريضة؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1830 - الأحد 09 سبتمبر 2007م الموافق 26 شعبان 1428هـ