التشدد حاضر في حياتنا على غير صعيد وهو صفة مذمومة تميّز الكثيرين. فقد يميل الكثير منا للتشدد في جوانب تعاطيه مع الحياة أو في جانب منها. التشدد وارد في الأفكار التي يؤمن بها المرء ويعتنقها وفي الآراء التي يعبّر بها عن تلك الأفكار، وهو وارد في السلوك الإنساني. وهناك التشدد في المحيط الأسري والتشدد الديني وكذلك السياسي والاجتماعي، كما نلمس التشدد في اختيارات البشر لأنماط حياتهم اليومية وفي تمسك بعضهم غير المبرر بأنماط ثبت خطأها ومضرتها.
لغوياّ، التشدد هو التصلّب في الأمور، من تشدد بمعنى تَصلّب في أموره، والتصلب ضد الليونة، نقول في عاميتنا: «فلان يابس» وقيل: فلان صُلْبٌ في دينه أي شديد فيه. وترتبط وتتصل بمعنى ومنحى التشدد/ التصلب وترفده، كما تأخذ منه معاني أخرى كثيرة تسم مواقف الناس وأفكارهم وآرائهم في الحياة كالتزمت بمعنى عدم المرونة ورفض التغيير بذريعة الحفاظ على الجلال والوقار. والتعنت بمعنى إدخال الأذى على الآخر المختلف وطلب زلته ومشقته. والتحجر بمعنى التضييق على النفس وعلى الآخر. والجمود بمعنى اليباس لا ينمو ولا حياة له. والتقليدية بمعنى الإتّباع من غير تأمل ولا نظر فيما ينتقل للمرء من الآباء والمعلمين والمجتمع من عقائد وعادات وعلوم وأعمال.
وأهم خصلة يتصف بها المتشدد(شخصا، جماعة، تيارا، سلطة، حزبا) هو عدم القدرة على قبول التغيّر وعدم الاعتراف به وبتأثيره في سيرورة الحياة. المتشدد يجد من الصعوبة تغيير أفكاره وأخلاقه وأساليبه ومن الصعوبة التكيّف مع متغيرات الحياة. كما يجد من الصعوبة القبول بالاختلاف إذ هو يرى ذاته مالكا الحقيقة لوحده فيصدّق ما يدور بدخيلته ويضع تلك الذات في منزلة أعلى من الآخر. إلا أنّ التغيّر يظل سمة الحياة يفرض نفسه ومفرداته إنْ عاجلا أو آجلا من دون أخذ الإذن من أي متشدد لا يقبل بالتغيير ولا يستطيع أنْ يعترف به.
والتشدد ليس سمة موروثة لا دخل للبيئة في اكتسابها، انه منحى حياتي في التفكير والسلوك يتربى عليه المرء مكتسبا خصاله ممارسا لمظاهره من أنماط الحياة والأفكار والشخصيات المحيطة به ذات التأثير في نموه الذهني والفكري والانفعالي والسلوكي. وهنا نستدرك ونقول إن هناك شخصيات صعبة منذ ولادتها بتركيبة جينية تتوافر على عوامل وراثية قوامها التشدد. وذلك يمنح الحياة شخصيات متوترة على اصطدام دائم بظروف حياتية تناقض نسق التشدد الذي يطبع توجهاتها نحو الحياة. هذه الشخصيات لا تكون صعبة فحسب بل هي تعبة أيضا يضنيها هذا التناقض بين طبعها الموروث وما تتطلبه الحياة من مرونة وليونة، هي شخصيات ورثت التشدد بطبعها. على رغم ذلك تظل القاعدة العامّة القائلة بأن التشدد مكتسب إذ تظهر البيئة دورها الحاسم في تطبع هذه الشخصية أو تلك بسمات التشدد ومظاهره.
ويرتبط التشدد في حالات عديدة باضطرابات الشخصية وعقد النقص النفسي، فتتميز بالتشدد شخصيات عدوانية تظهر ما لا تبطن أو تدرك في دواخلها أنها ليست على حق وإن الآخر هو المحق لكنها تكابر وتواصل تشددها. وهناك البعض الذي إنْ لم ينجح في لفت الآخرين تشدد في جانب من جوانب الحياة أو السلوك بحثا عن تعويض نفسي كتحقيق مكانة أو توسم تبعية الآخرين له وإخضاعهم لنزواته وطموحاته ونظمه وسبله في الحياة.
والتشدد يطال مناحي الحياة كافة والتعاطي فيما بين البشر وفيما بينهم وبين الحكومات والمؤسسات والتيارات.
فهناك التشدد الفكري؛ أي التشبث بالرأي والقول في كل الظروف والأوقات إلى مستوى عدم القدرة على قبول واقع يقول إن الفكرة خطأ أو أن الزمن بمتغيراته قد تجاوزها. ليس لدى المتشدد فكريا القدرة إلا على معارضة ومهاجمة مناوئي أفكاره وطروحاته. والجدير به هنا أنْ يُقدّم أولا على مراجعة أفكاره وثانيا الاعتراف بخطأ قناعاته الفكرية وثالثا أنْ يذهب نحو تغييرها.
وهناك التشدد الأسري في محيط العلاقات العائلية والتعامل بين أفراد الأسرة وفي أساليب تربية الأبناء. ويغيّب اعتماد التشدد الأسري إمكانات التعاطي العاطفي بين الوالدين والأبناء وبين جميع أفراد الأسرة. وفي هذه الحال تكاد تغيب أهم مظاهر التعبير العاطفي عن الانتماء والترابط والاستقرار الانفعالي كتبادل كلمات المحبة والضم واللمس والتقبيل، فيعاني أفراد الأسرة من عدم الإشباع العاطفي. ويتمثل تشدد الأبوين في عدم إعطاء الأبناء فسحة من الحرية للعب والمرح وهم صغار، والوجود والخروج مع الأصدقاء والصديقات حينما يكبرون. كما يظهر التشدد في الأوامر والنواهي التي لا تدع متنفسا للأبناء كي يبلوروا شخصياتهم ويحددوا خياراتهم في الحياة.
والتشدد الاجتماعي يظهر فيما يُفرض على الأفراد من قيود متوارثة في ممارسة الحياة واعتناق الأفكار والعلم والعمل. وكذلك الموروث الذي يقيّد المرأة والطفل والشباب ويحدد مسلكياتهم وتعاطيهم مع الحياة. إلى جانب التشبث بالعادات والتقاليد والأعراف البالية في متطلبات وطقوس الزواج وتكوين العائلة والنمطية في العلاقات الاجتماعية وتكريس قيم الطاعة العمياء والعيب وتبني رأي الكبير وتهيب الإفصاح عن الرأي والموقف.
والتشدد السياسي يظهر فيما تتبعه الأنظمة الحاكمة من الانفراد بفرض الأنظمة والقوانين التي تريد، ومن الاستبداد بشعوبها ومصادرة حقوقهم وحرياتهم وقمعهم إنْ أبدوا تذمرا. والتشدد السياسي يتمظهر في تشبث الدول والأحزاب والتيارات السياسية بمواقفها حتى وإن كانت خاطئة وعدم إقدامها على الاعتراف بالخطأ. وكذلك عدم قبول الطرف الآخر والتشدد في تحديد الحلفاء والأصدقاء وفي دخول الحوارات وعقد التحالفات. والأمثلة أمامنا عديدة وقريبة وصارخة في معظم الأنظمة المستبدة والأحزاب الشمولية وفي كلّ تيار وتجمع تغيب عنه الديمقراطية القادرة وحدَها على كبح جماح التشدد.
أمّا التشدد الديني فتعبر عنه مشكلات تكاد - في الوقت الراهن - تدمر المجتمعات الإسلامية على وجه الخصوص. التشدد الديني قد يوصل صاحبه إلى تجاوز قدسية النصوص الدينية موغلا في اعتبار التعاليم والإرشادات والأقوال وحتى حكايات التاريخ الديني القديم ثوابت لا تمس ولا تساءل. هو يعيش حالة خوف دائم من فقد الهوية ما يجعله يغلق باب الاجتهاد ويرفض الانفتاح على الآخر، فينغلق ويتقوقع مما يحرم الخطاب الديني من الانفتاح على آفاق الحياة ومتغيراتها المستجدة. ومن غير شك فهذا النمط من التعاطي مع الدين يفضي للاقتناع بامتلاك الحقيقة من قبل مرجع قد تُضفى عليه حتى سمة القداسة. وهنا يمكن أن يبلغ التشدد الديني مداه فيكون واردا رفض الرأي الآخر وتبرز الصراعات في المجتمع الواحد بين الأديان، بل قد تصل لصراع المذاهب داخل الدين نفسه. وذلك كفيل بالوصول إلى حدود تكفير الآخر وقد تبلغ حد ممارسة العنف ضده. والتشدد الديني لا يقتصر على الأفكار والرؤى بل يتجاوزها للمظهر والملبس. وذلك ليس سوى تمسك بتقاليد موروثة لم يرد عليها نص صريح مباشر ككشف أو تغطية وجه المرأة في الإسلام وما طرح حوله من اجتهاد. لقد اعتبر المتشددون ستر الوجه واجب، في حين أنّ الأصل في الأشياء والأمور هو الإباحة حتى يرد تحريم شرعي حولها. وبحسب الكثيرين من علماء الدين لا قرائن على ورود نصوص صريحة بستر الوجه. التشدد في الدين يتعارض مع ما تنادي به الأديان وتُعلمه، فجوهر الدين وقوامه الاعتراف بالآخر واحترامه والوقوف معه في السراء والضراء، وقبول الاختلاف مع الآخر بترحاب وخلق رفيع دليل تسامح وبعد عن التشدد.
وفي العموم تقع المرأة فريسة التشدد على اختلاف مشاربه، ففي أجواء التشدد تقيّد المرأة وتصادر حقوقها الإنسانية وحريتها في الاختيار. وقد ذهب نحو ذلك تقرير منظمة العفو الدولية الصادر هذا العام إذ يشير إلى أنّ النساء أصبحن أول ضحايا القيود على الحرية الناجمة عن عدم التسامح الديني أو السياسي.
لا نجد مداواة شافية للتشدد إلا مجاهدة النفس والفوز بجوهرة التسامح والسعي للتطبع به
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1828 - الجمعة 07 سبتمبر 2007م الموافق 24 شعبان 1428هـ