هل تشكل فكرة «نصاب الثلثين» تلك الصخرة التي ستتحطم عليها الدولة اللبنانية أم تتحول لسبب ما إلى قاعدة صلبة يعاد على أساسها اعادة هيكلة الكيان السياسي؟
الجواب يمكن تأجيله إلى يوم الثلثاء المصادف 25 سبتمبر/ أيلول الجاري. واليوم المذكور هو الموعد الذي حدده رئيس مجلس النواب نبيه بري لانعقاد الجلسة الأولى لبرلمان مقفل منذ أشهر. فالدستور اللبناني يلزم النواب بضرورة الاجتماع في ذلك اليوم لاختيار رئيس جديد للجمهورية. واجتماع النواب لا يعني بالضرورة توافقا على الانتخاب في ذاك اليوم ولكنه يعتبر شرطا للانعقاد ولا يجوز تجاوزه. بعد ذلك تبدأ الاجتماعات بالانعقاد تتابعا حتى يتوصل نواب المجلس إلى انتخاب الرئيس على أن تكون الجلسة الأخيرة قبل عشرة أيام من ولاية اميل لحود التي تنتهي في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
الموعد الأخير للنواب يتصادف في 15 نوفمبر وبموجبه يجب أن يتوصل المجلس النيابي إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية وإلا سيتعرض الكيان إلى «فراغ دستوري» يستوجب التحرك ميدانيا لضبط احتمالات انهياره وذهابه بعيدا في فوضى أمنية قد تؤدي إلى تفكك مناطقه طائفيا ومذهبيا. فهل ينهار لبنان في حال لم يتوصل النواب إلى توافق على رئيس وفاقي أو توافقي قبل الموعد الدستوري أم هناك احتمالات أخرى تخرج البلد من مأزقه؟
فكرة «نصاب الثلثين» تعتبر تعجيزية وهناك تفسيرات وخلافات بشأن مقدار صحتها الدستورية. البعض يقول انها وضعت للدورة الأولى فقط وإذا لم يتوافر «نصاب الثلثين» توجه دعوة لدورة ثانية ينتخب بموجبها الرئيس بالغالبية (نصف زائد واحد). والبعض يقول إن «الثلثين» شرط دائم ولا يجوز تجاوزه وإلا يعتبر الرئيس المنتخب غير شرعي. والبعض يقول إن انعقاد جلسة النواب تشترط «نصاب الثلثين» من الحضور ولكن الانتخاب لا يشترط سوى الغالبية النسبية من المقترعين. وهكذا تتعدد القراءات وتتنوع ولم تتوصل الكتل البرلمانية حتى الآن إلى تفاهم مشترك على تفسير المواد الدستورية.
في الدستور لا توجد مادة واضحة تشترط «نصاب الثلثين» إلا إذا أراد النواب تعديل الدستور. تعديل الدستور يستوجب غالبية الثلثين وغير ذلك من أمور بما فيها انتخاب رئيس للجمهورية لا يفرض هذا الشرط التعجيزي. ولكن الأعراف السياسية (التقليدية) التي تتحكم بكيان متنوع المذاهب ومتعدد الطوائف كرست عادة غير قانونية وهي ضرورة حضور الثلثين من النواب ليكون اختيار رئيس الدولة مريحا وغير محكوم بأكثرية نسبية.
هناك مشكلة دستورية «عرفية» وفي حال فشل النواب على التوافق على تفسير واضح للمادة أو التفاهم على رئيس ترضى عنه كل الكتل البرلمانية، فمعنى ذلك أن لبنان دخل في مجهول وأعطى أشارة غريبة من نوعها للدول التي تعتمد على الدستور في توزيع السلطات وإدارة الدولة. والإشارة هي أن الدستور يوضع عادة لحماية الدولة ومنع تصدعها بينما في لبنان يحصل العكس أي أن الدستور يشكل المدخل القانوني لتحطيم الدولة (الضعيفة والمشلولة أصلا). فهل يسجل لبنان هذه السابقة التاريخية في لعبة الدساتير أم يتدارك المسألة ويتوصل خبراء القانون إلى وضع تفسير واضح ومشترك لهذه المادة أو تلك؟
سياسي وليس دستوريا
حتى الآن الخلاف على أشده. والخلاف الدستوري الناشب بين الكتل يرتكز على السياسة وليس القانون. فالخلاف سياسي في جوهره وليس دستوريا لذلك لابد من قراءة المسألة في جانبها الميداني المحلي (الطائفي، المذهبي، والمناطقي) والإقليمي (الجواري والعربي) والدولي (الأميركي والأوروبي).
الحل سياسي والدستور مجرد غطاء لتلك اللعبة المحلية والإقليمية والدولية. واستخدام الدستور وسيلة للتعطيل يعتبر فعلا سابقة سلبية في إدارة أزمة متراكمة ودفعها بقوة نحو الانفجار. فهل يعقل من الناحية المنطقية أن يرتكب المشرّع هذا الخطأ الدستوري القاتل ويورط الدولة في مشكلة بنيوية تهدد كيانها أم توجد منافذ تخرج الدستور من أزمة قانونية؟
المنطق يقول إنه لا يعقل أن يوجد دستور في العالم وظيفته تعطيل مؤسسات الدولة وتحطيمها وشرذمتها. وظيفة الدستور حماية المؤسسات وتنظيمها وترتيب أدوارها وعلاقاتها في إطار قانوني يمنع التجاوزات ويراقب الهيئات ويعمل على مساعدتها وإنقاذها وليس تدميرها وتفكيكها. المشكلة إذا في السياسة ولا بد من التوافق على حل خارج «البرلمان» حتى يمكن التوصل إلى صيغه دستورية توافقية تسهل عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
فكرة «صنع في لبنان» جميلة وجذابة ولكنها ليست واقعية وغير صالحة للتصدير. فمن شروط تصدير البضاعة (السلعة) أن تتوافر لها كل المواد الأولية من البلد المنتج حتى تقبل في سوق التداول. وهذا النوع من الإنتاج غير متوافر في لبنان نظرا لتشعب مداخله المذهبية ومخارجه الطائفية.
«صنع في لبنان» فكرة مثالية ولا قيمة لها في سوق الطلب. فهذا البلد الجميل ليس قطعة من «السماء» كما يردد الشعراء وإنما قطعة أرض صغيرة تعيش فيها «الملل والنحل» في فضاء تتجاذبه الأهواء والمصالح والطموحات. وكل هذه الاعتبارات الواقعية تفرض التفكير في حل موضوعي يأخذ في الاعتبار موقع البلد الجغرافي ومحيطه الثقافي وبيئته السياسية والإطار الدولي المحكوم بالأقاليم الجوارية والبعيدة. والمسألة الدستورية في هذا المجال العام تشترط أحيانا قراءات غير قانونية للتوصل إلى صيغة توافقية مركبة من عناصر سياسية دولية وإقليمية وجوارية تعكس احترام المصالح وتوازن القوى في الكيان ومرتكزاته الممتدة القنوات.
لبنان الصغير لا بد أن يقرأ جيدا تعقيدات العالم الكبير. حتى دولة كبرى كالولايات المتحدة لم تعد الآن في موقع يسمح لها بالتصرف خارج المعادلة الدولية. وأميركا التي تتمتع بقدرات وإمكانات وامتيازات وقوة ذاتية لا تستطيع أن تمنع تأثيرات «الخارج» في تشكيل توجهات «الداخل».
وإذا كانت دولة كبرى لا تستطيع الخروج من الفضاءات الدولية وتعزل انتخابات الرئاسة عن تأثيرات الخارج (الحرب على العراق مثلا) في اختيار الرئيس فكيف سيكون وضع لبنان الذي يمر في أزمة سياسية قاتلة تعبر عن نفسها دستوريا في عدم التوافق على تفسير مادة أو التفاهم على رئيس للجمهورية.
مشكلة لبنان في جوهرها سياسية وتمس نظامه الذي يعتمد قانون «الملل والنحل» في إنتاج قياداته واختيار رجال دولته. وهذه المشكلة تتجاوز الدستور لأنها في أساسها ترتبط بالواقع وامتداداته الجوارية والإقليمية والدولية وما تعنيه ساحته المكشوفة والمفتوحة من اشارات ورموز تعكس موازين القوى المحيطة به.
البحث في الدستور للتوافق على صيغة معقولة لفك «العقدة القانونية» ضرورة سياسية لإنقاذ الكيان من أزمة قد تدفعه إلى الانزلاق نحو ورطة كبرى يصعب الخروج منها لاحقا. فهل ينجح النواب في التوافق على حل يؤسس مرحلة انتقالية لبلد أشبع بالحروب والاقتتال أم تصطدم الدولة بصخرة «نصاب الثلثين» وتتفرق إلى شيع وفرق؟
المسألة تحتاج إلى عقل «تسووي» وهذا يبدو غير متوافر الا بكميات قليلة في كيان تأسس على تجاذبات وتشنجات و«نكايات»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1828 - الجمعة 07 سبتمبر 2007م الموافق 24 شعبان 1428هـ