العدد 1827 - الخميس 06 سبتمبر 2007م الموافق 23 شعبان 1428هـ

أميرٌ... حكيمٌ... في العرب

محمود الموسوي comments [at] alwasatnews.com

ما زلت أتذكّر أول لقاء جمعني بالأستاذ المجاهد الكبير (عبد الأمير بن محمد حكيم العرب)* عندما قصدت سورية في منطقة السيدة زينب (ع) للدراسة في بداية التسعينات من القرن الماضي، فقد زرته لأول مرة وكنت شغوفا ومتشوقا لرؤية من سمعت عنه كثيرا في فاعليته للمطالبة بالحقوق المسلوبة للشعب في المحافل والمنظمات الدولية... وكان حينها للتو قد أنهى جولة في مجموعة من الدول حاملا إحدى قضايا وطنه وشعبه، رحّب بي كثيرا، فأنا ابن قريته التي لم يرها منذ سنين طويلة، بل وألحقه من طرف بسيط في النسب من ناحية الأمهات.

لقد غمرني رحمه الله بلطفه وأخلاقه، على رغم حداثة سنّي آنذاك، فلم أكن أتعدى حينها الثامنة عشرة سنة، وقد بهرني بثقافته وسعة اطلاعه، وكان حائط شقته يحكي عن نهمه للقراءة والمطالعة، فالكتب تزيّن كل ناحية من المكان، والكثير منها كان باللغة الإنجليزية... أتذكّر هذا اللقاء بشكل دائم بين فترة وأخرى، والسبب في ذلك هو أنه نصحني بالإطلاع في الشأن السياسي وأشار لي بشراء موسوعة سياسية كان يمتلكها، وبالفعل أخذت بنصيحته واشتريها عندما رجعت إلى البلد، فكلما أستخدمها وأستفيد منها أتذكر ذلك اللقاء المميز.

لم يكن خافيا على كل من جالسه وعاشره ما يحمل من وعي وبصيرة ورؤية ثاقبة للحوادث، ليس الحوادث المحلية أو الإقليمية فحسب، بل كان محيطا بما يجري في العالم تاريخا وسياسة، ولعل الكثير ممن ارتاد مجلسه العامر كل ليلة أحد الذي كان يحضره طيف متنوع من الناس، وليس الدينيين فقط، لعلهم شعروا وأدركوا حقيقة ما أقول.

نعم لقد كان أحد الخبراء والمحللين الكبار بيننا وقد رحل الآن... لقد كان يشتري لأهله الخبز و(الصمّون) وبقية الحاجيات وقتما نشتري... نسلّم عليه، ونحكي إن وسع الوقت كلمات، ونمضي.

ما أريد أن أخطّه في هذا المقال ليست الذكريات، لأني لو فتحتها ستثير فينا الشجن والحزن أكثر مما عليه أحباؤه الآن... وإنما أريد أن أشير إلى بعض جوانب الإشراق من هذا الرجل الكبير، فهو بالإضافة إلى ما يمتاز به من أخلاق فاضلة وإيمان كبير، كان صاحب رؤية مؤسّسة على بصائر رسالية واضحة بالنسبة إليه، فعندما يدلي برأيه في أمر ما، يسرد بعده حيثيات ذلك الرأي، بالمعلومة الدقيقة والسياق التاريخي لرؤيته بحيث تكون النتيجة الواضحة أمام المستمع، لم يكن يتبع الحماس في طرح رؤيته، ولا يتأثر بالأجواء الصاخبة لحدث معيّن، كما ينساق البعض أحيانا لحوادث سياسية كبيرة، فتأسره رهبة الحدث وتؤثر على رؤيته وموضوعيته، لم يكن الفقيد من هذا النوع البتّة، هذا ما لاحظته في مجمل ما استمعت إليه فيه من آراء... ابتداء من الميثاق البحريني، ومرورا بتفجير برجي المجمع العالمي للتجارة في أميركا في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، ومرورا برؤيته بشأن أفغانستان، والعراق... بل وحاضر البحرين ومستقبلها.

يبدو لي أن هذه الميزة التي تجعله قويا متماسكا في رأيه على رغم ضوضاء الحادث وتأثيراته الأجوائية التي تنطلي حتى على كبار الشخصيات، هي نابعة من ميزتين أساسيتين كان الفقيد يمتلكهما، الأولى: هي بصيرته الرسالية وقناعته بسنن الحياة وثوابتها، المستلهمة من الفكر الرسالي الذي يتبناه، والثانية: هي سعة اطلاعه وحرصه على أن يكون رأيه عن دليل وبيّنة واضحة، أي أنه يعطيك رأيه في سياق متسلسل من الأفكار والمعلومات، بحيث لا تمتلك أمامه إلا الاقتناع أو الاحترام الكبير لمجهوده.

وهو مع وثوقيته برأيه، يبقى مبتسما أمام المختلف، مستمعا لرأيه، ومحترما لجهده بتواضع جمّ، فطالما ألحيت عليه بالكتابة، ليرى الناس رؤاه مخطوطة، إلا أنه بتواضعه يرد، أنتم أصحاب الفكر والقلم، وأرد عليه بل أنتم... نسأل الله أن تستخرج كتاباته السابقة لتقرأ من جديد...

أذكر هذه الميزة في فقيدنا الغالي لا للتسلية أو التغنّي بأمجاد الغير، بل لكي نستفيد ويستفيد أصحاب الرأي وأصحاب المسئولية وأصحاب القرار في دوائرنا وجمعياتنا وكل تجمعاتنا بهذا النوع من التميّز، وهذه الميزة قلّما تجدها حاضرة عندهم حفظهم الله، فأمام المسئوليات الجسام التي تنتظرنا، لا يكفي أن نتسلّح بخطاب جماهيري ليس فيه إلا التأثير الصوتي، وإنما نحتاج إلى تأثير الفكرة بكل أبعادها، لتنفذ إلى قلوب الناس في قناعة راسخة، لتبلور رأيا ثابتا لدى المجتمع، فوعي المجتمع بقضاياه وعيا وثوقيا ضرورة لازمة، للتقدّم، وللتأثير إيجابا في تلك القضايا... فلا يمكننا أن نقود مسيرة بناء، معتمدين فقط على أجواء الحماس ومنطلقات الألم، فالألم الكبير الذي يعاني منه المجتمع من السياسات الظالمة يحتاج إلى رؤية تؤسس لتحرك سديد يزيح الآلام، إن لم يكن بشكل جذري، فلا أقل، بتأسيس واقع صعب على الآخر هدمه، ويؤسس لحقوق ثابتة جذرا... والكلام في ذلك ذو شجون.

أكتفي بهذه البصيرة للتأكيد عليها من حياة فقيدنا المجاهد الكبير (أمير... حكيم... العرب).

وأختم قولي وخير الختام مسك بقول الله تعالى: «قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (يوسف: 108) .

@ انتقل إلى رحمة الله، يوم الاثنين 3 سبتمبر/أيلول2007، في حادث مرور مروع.

إقرأ أيضا لـ "محمود الموسوي"

العدد 1827 - الخميس 06 سبتمبر 2007م الموافق 23 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً