علم الإدارة يعد علما تطبيقيا مترابطا مع علوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة، ويهدف بالأساس إلى إدارة عجلة التنمية الاقتصادية مع مراعاة آخر التطورات في السياسة والاجتماع والثقافة. والإدارة بصفتها علما وممارسة (وفنا أيضا)، أصبحت ظاهرة ملازمة بل أساسية لنجاح خطط التنمية والتطوير في أي مجتمع كان. فاليابان لم تكن ستخرج من أزمة ما بعد الحرب العالمية الثانية لولا اعتمادها على مفكرين إداريين أمثال ديمنغ (Deming) وغيره، وكذلك ألمانيا والدول المتقدمة الأخرى.
علم الإدارة ظهر علما يُدَرّس في الجامعات الأميركية في مطلع القرن العشرين، وتحديدا في جامعة هارفرد الأميركية، ويعد من العلوم الاجتماعية الحديثة التي استطاعت أن تؤثر على مجريات الأمور بصورة واسعة، إلى الدرجة التي قال عنها عالم الإدارة بيتر دركر (Peter Drucker) إنه «لو كان علم الإدارة موجودا في أيام كارل ماركس لكان ماركس قد أضاف الإدارة عاملا رابعا إلى عوامله الثلاثة لعملية الإنتاج: (رأس المال والأرض والعامل)». ويدّعي دركر أيضا لو أن ماركس أضاف عامل الإدارة المعرفية لتغير عدد من نظرياته الاجتماعية والاقتصادية.
إن علم الإدارة تطور مع تقدم الحياة السياسية والاقتصادية - كان ذلك في بداية الأمر. ولكن ما ثبت في العقود الماضية هو أن تطور علم الإدارة وانتشاره في أوساط الطبقة الوسطى دفع باتجاه تطوير الحياة السياسية والاجتماعية، حاملا معه مفاهيم الديمقراطية التي وجدت لها بابا خلفيا لدخول المجتمعات المختلفة.
كثير منا تعود على ربط الإدارة بإدارة الأعمال التجارية، غير أن الواقع هو أن الإدارة مطلوبة في كل مؤسسة من المؤسسات سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية أم ثقافية أم طوعية أم خيرية، إلخ... وبما أننا نعيش في مجتمع معاصر قائم على المؤسسات في كل مجال من مجالات حياتنا، فإننا إذا نعتمد على العامل الذي يحرك المؤسسات التي تدير حياتنا، بل إننا نحتاج إلى علم الإدارة أكثر في المؤسسات غير التجارية من المؤسسات التجارية... ذلك لأن المؤسسات التجارية قائمة على وجوب طاعة الموظف والعامل لصاحب العمل. أما المؤسسات الأخرى فإن طاعة الأعضاء الداخلين فيها تتطلب عملا سياسيا واجتماعيا وثقافيا لخلق المؤسسة الناجحة والعمل التنظيمي الفاعل القائم على مبدأ الشرعية النابعة من مجموع الناشطين والعاملين.
وعلى رغم من أن «فن» الإدارة كان ملازما الحياة الإنسانية منذ آلاف السنين، فإن «علم» الإدارة لم تدرك أهميته على المستوى العالمي إلا في القرن العشرين، وازدادت أهميته بعد الحرب العالمية الثانية وبعد دخول العالم إلى عصر المعرفة (منذ نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن العشرين).
وكما أشرنا سابقا، انتبه اليابانيون إلى أهمية هذا العلم ودشنوه كي يطوروا بلادهم بعد تدميرها في الحرب مستعينين على ذلك بعلماء الإدارة الأميركان. وتمكن اليابانيون اللحاق بالولايات المتحدة خلال عقدين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومنذ ذلك الحين أصبحوا قوة اقتصادية عالمية كانت تنافس الولايات المتحدة في الثمانينات من القرن الماضي، الأمر الذي أفزع الأميركان حينها. وحصل الأمر ذاته في كوريا الجنوبية التي تدمرت كثيرا بعد الحرب الكورية، ولكنها أصبحت الآن من الدول المتقدمة صناعيا واستطاعت اللحاق بالدول المتطورة خلال أقل من ثلاثة عقود بعد الدمار الذي أصابها بسبب حرب الكوريتين في الخمسينات.
إن مجتمعاتنا الحديثة تنتقل من نمطها التقليدي والقبلي إلى المجتمع القائم على المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية، ومجتمعاتنا أيضا بدأت تتغير مع عصر المعرفة وبروز علم الإدارة المعرفية كأحد العوامل المهمة في التنمية الاقتصادية. إن التنظيمات الإدارية عادة تختص بشأن معين وهدف موحد ومهمات محددة... فالمستشفى، المدرسة، المصنع، الجمعية، النادي، الصندوق، النقابة، البرلمان، المسجد، المأتم، المحكمة، إلخ... كل واحد منها يمثل مؤسسة مجتمعية، وجميع هذه المؤسسات لديها أعضاء أو زبائن أو جمهور تستهدف إرضاءه وإشباع رغباته. وكل مؤسسة بحاجة إلى علم الإدارة كي تستطيع أن تقدم منتجاتها وخدماتها بصورة أفضل مما يقدمه منافسوها.
لقد تحولت الإدارة من «فن» في الماضي إلى «علم» في الحاضر، وهذا العلم أثبت قدرته على اختصار الوقت المطلوب لتحقيق أعمال كانت تستغرق فترات خيالية عند مقارنتها بما يمكن إنجازه في عصرنا الحالي. ولإيضاح الفرق بين «الفن» و»العلم»، يذكر أحد الإداريين البحرينيين الذي زار اليابان عدة مرات، وفي إحدى زياراته اطلع على مجسم كبير لفيل قام بصناعته عدد من الأشخاص المكفوفين، وكان كل ضرير قد دُرِّب على صناعة قسم صغير من مجسم الفيل، وبعد ذلك تم تركيب الأعضاء الصغيرة ليصبح فيلا مصنوعا بأحسن أسلوب يمكن أن يصنعه من يستطيع الرؤية.
لقد ظهر علم الإدارة - كما أشرنا - في مطلع القرن العشرين وانتشر عالميا في القرن العشرين.. وذلك لأنه عندما توسعت الصناعات نمت الحاجة إلى تنظيم المصانع والمعامل من خلال هيكلية يمكن التحكم فيها لمعرفة الإنتاج ونوعيته وجودته؛ ولذلك ظهرت الدراسات الأولى تتحدث عن الهيكلية (STRUCTURE).
ثم توسعت الدراسات الإدارية لزيادة الإنتاجية (PRODUCTIVITY) للحصول على أكبر قدر من الإنتاج من الهيكلية التنظيمية. ومع تعقد العمليات الإنتاجية والخدماتية وارتباطها ببعضها بعضا ظهرت الدراسات التي حاولت تشبيه عملية الإنتاج بالأنظمة الهندسية (SYSTEMS».
إلا أن كل تلك الدراسات كانت تغفل الجانب الإنساني؛ ولذلك سرعان ما بدأت الدراسات السلوكية (BEHAVIOURAL SCIENCES) تدخل عالم الإدارة محاولة التعرف إلى الدوافع التي تدفع أي إنسان إلى القيام بعمل ما.
هذه الدراسات بحد ذاتها دفعت إلى إدخال مفاهيم القيم والثقافة (CULTURE / VALUES) التي استطاعت أن تعطي أبعادا أخرى لعلم الإدارة لم تكن موجودة في المقاربات السابقة، وهذا أدخلنا في «الادارة المعرفية» منذ التسعينات من القرن الماضي.
لقد أبدع اليابانيون في السبعينات من القرن الماضي من خلال إدخال مفاهيم القيم والثقافة في عالم الإدارة واستطاعوا نشر مفهوم الجودة بدرجة عالية جعل الكثير يلهث لدراستها للتعرف إلى سر التطور السريع لليابان في السبعينات والثمانينات.
بما أن «علم الإدارة» هو انعكاس لعلم الاجتماع والسياسة، فإننا نجد الثمانينات والتسعينات هما فترة «ما بعد الحداثة» في علم الإدارة. ففي هذه الفترة ظهرت شخصيات مثل توم بيترز (Tom Peters) الذين تحدثوا عن «تفكيك» مفاهيم الماضي وقلبها رأسا على عقب، والاستفادة من حال الفوضى من تفكيك الأساليب القديمة. واستمرارا لهذا النهج خرج علينا من اقترح مصطلح( REENGINEERING) قاصدا بذلك إعادة بناء المؤسات الإدارية بعد التخلي عن أساليب الماضي التي قامت على أسس تكنولوجية واجتماعية قديمة لا تتلاءم مع عالم اليوم.
إلا أن التطور الأخير في علم الإدارة هو الأهم، وهو الذي يتحدث عن المجتمع المعرفي (KNOWLEDGE SOCIETY) وعن الإدارة المعرفية (KNOWLEDGE MANAGEMENT)، إذ تعتبر مفاهيم الإدارة المعرفية قمة ما توصل إليه الفكر الإنساني الذي لم يتوقف أبدا عن التقدم إلى الأمام.
إدارة المعرفة بدأت تخلخل النظرية القديمة التي تحدثت عن عوامل الإنتاج (رأس المال والأرض والعامل)، إذ أصبحت المعرفة أهم من رأس المال وأهم من الأرض. فالمال يمكن توريثه والأرض يمكن توريثها، أما المعرفة فيختزنها الإنسان وهي غير قابلة للتوريث. وأصبح ما يطلق عليه دركر «مشغل المعرفة»، أو «KNOWLEDGE WORKER» هو الذي يتحكم في رأس المال والأرض.
لقد كان ماركس يحلم بسيطرة العامل على رأس المال وما يتحقق هذه الأيام هو سيطرة المعرفة التي يختزنها الإنسان على رأس المال. والمعرفة ليست صفة ملازمة لكل عامل لأنها تستلزم الدخول في عالم المعرفة وتستلزم وجود الإدارة المعرفية.
إن مصدر الثروة الحقيقي في عالم اليوم ليس رأس المال وليس الأرض، وإنما المعرفة، وعلى هذا الأساس، كما يقول تشارلز هاندي (Charles Handy) إن سنغافوة أخذت تطلق على نفسها لقب (THE INTELLIGENT ISLAND) للإشارة إلى أن مصدر تقدمها لا يكمن في أرضها أو معادنها أو أموالها أو مكائنها وإنما في المعرفة التي يمتلكها شعبها، وهذه المعرفة تستطيع تحصيل بقية العوامل الأخرى.
يمكنك ان تصدر مرسوما وتمنح أرضا لشخص ما ويمكنك أن تعطي شخصا كمية من المال ولكن ما لا يمكنك عمله هو أن تعطي المعرفة بقرار من هذا النوع. فالمعرفة تتطلب التعليم المتطور وتتطلب التدريب المتواصل طوال عمر الإنسان وتتطلب تنمية القدرات والمهارات في شتى مجالات الحياة. وهؤلاء الناس لا يستطيعون اكتساب العلوم والمهارات إلا إذا تم احترامهم وتقديس كرامتهم وتوفير الفرص لهم للتفكير الحر كي يختاروا طريقهم في الحياة. والتفكير الحر والاختيار والكرامة والاحترام هي المداخل الاساسية لحياة ديمقراطية عادلة.
إذا كانت الإدارة هي سر نجاح كل مؤسسة مهما كان نوعها، وإذا كانت المؤسسات هي أساس حياتنا المعاصرة، فإننا نلاحظ أن جميع الدول والمجتمعات بدأت تعتمد على الإداريين المتدربين لإدارة شئون جميع أنواع المؤسسات. ولذلك فإننا نرى حتى في الدول المتخلفة سياسيا التي لا تسمح بوجود مؤسسات متطورة - كالبرلمان مثلا - أنها مضطرة إلى السماح للمؤسسات الاقتصادية وغير الاقتصادية كي تستطيع اللحاق بركب التطور في أي جانب من جوانبه. ولهذا فإننا نرى المؤسسة الحديثة المعتمدة على أفضل الإداريين المستوعبين قيم العصر، وأهمها الكفاءة المعرفية والشفافية والمحاسبة تخترق جميع أنواع المجتمعات. وفي الوقت ذاته نرى أن هؤلاء الأشخاص المتفوقين إداريا قد لا يسمح لهم بالحصول على المؤسسة السياسية الحديثة القائمة على هذه المفاهيم. ولذلك نرى أن هذه الطبقة المتعلمة والقوية هي الطبقة المتوسطة التي تدفع - عادة - باتجاه الإصلاح السياسي؛ لأنها الأكثر فهما واستيعابا لمتطلبات عصرها.
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1827 - الخميس 06 سبتمبر 2007م الموافق 23 شعبان 1428هـ