إن شرح العلاقة بين الإنسان والحيوان والتي تتسم بأنها علاقة شائكة، الاعتبارية التاريخية تذهب إلى أن الإنسان هو (حيوان عاقل)، ولقد اشتغلت بهذا التعريف أداة النقد الحديثة واستخلصت الكثير من النتائج والتي كانت أهمها اعتبار الإنسان بأنه كائن حيواني شديد الخطورة نتيجة امتلاكه للعقل، وأن العقل هو ما يجعل منا (لا عقلانين) أحيانا، وهو تصور له دلالاته الحاضرة عبر آلة العنف المتطورة التي أنتجها العقل البشري، والتي تحتاج إلى جهد عقلي غير طبيعي، أو تحتاج إلى (لا عقلانية) بتعبير حنة أرندت.
غير أن الاحتجاج الذي تورده أرندت يعتمد على أن الإنسان لا يخرج من إنسانيته عندما يخرج عن نطاق العقل «سأحاجج في السطور التالية قائلة: العنف ليس حيوانيا ولا هو لا عقلاني» وتستدل بأن الإنسان لربما ألغى عقلانيته برفض التصديق باكتشافات العلماء أو أن لم يستمع لنصائح حكيمة، فهل هو بهذا يخرج عن إنسانيته؟ كما أن الإنسان الذي يمر بمشكلات عقلية أو نفسية تجعله يتصرف بلا عقلانية لا يقصى عن إنسانيته، والمهم لدينا هو قراءة العنف كظاهرة بأنها ليست ذات ارتباط مباشر مع ما يطلق عليه (لا عقلانية).
مرجعية العنف بدافع الغضبية السبعية كما يعبر عنها اليزدي في كتابه مبادئ الأخلاق عندما يضع الانسان وسلوكياته تحت أربع مؤثرات نفسية لها حضورها الفاعل، بمعنى ازدواجية العنف والغضب لأزمة، غير أن الخروج عن مؤثر الغضب لا ينفي الإنسانية بطبيعة الحال والشواهد الإنسانية عديدة فما من أحد تبدو عليه ملامح الغضب إزاء مرض لا علاج له أو تجاه بركان ثائر يحرق ما أمامه، وهو بذلك لا يتحول إلى ما يشبه الحيوان، الغضب رهن باحتمالية التغيير والسعي لإيجاد التصحيح لما يراه الإنسان مخالفا للصواب، أو اللازم.
وكم هي لطيفة مقولة هرمان ملفيل في رائعته (موبي ديك) (لا يعني أبدا أنها أفعال لا إنسانية، أو أنها -مجرد- أعمال عاطفية) فالثورات وتاريخها تبرهن أن الكثير منها يتم بمحرك غائب غير معلوم أو غير عقلاني، فيكون العنف ذلك الدواء الناجع للشعوب المستضعفة فليس ضرب الباب بالجدار ضربة قوية هو السبيل لهدوء النفس عن غضبها غير المبرر، أو المبرر بلا عقلانية.
للنفاق والكذب حضور في مسألة العنف، فالحوار أو اللغة المتحاورة بين من تتأسس الثقة بينهما أمر طبيعي، غير أن العنف هو وسيلة التعبير النافعة تجاه من تنعدم ثقة الإنسان تجاهه، دلالتنا من الثورة الفرنسية في تعليق سوريل باريتو :»انما تحركت بفعل كراهية عميقة تستشعرها إزاء المجتمع البرجوازي، مما قادها نحو قطيعة أكثر جذرية بكثير مع مقاييسها الأخلاقية من تلك التي عاشها اليسار التقليدي، الذي حركه في الأساس حس التعاطف لديه ورغبته الحارقة في تحقيق العدالة، أن نزع قناة النفاق عن وجه العدو وكشفه وكشف الألاعيب الضالة وضروب التلاعب التي تسمح بأن يسود من دون أن يلجأ إلى أدوات العنف، تلك أمور لاتزال من بين أقوى الدوافع التي تحرك اليوم العنف في الجامعات وفي الطرقات العامة».
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1826 - الأربعاء 05 سبتمبر 2007م الموافق 22 شعبان 1428هـ