العدد 1826 - الأربعاء 05 سبتمبر 2007م الموافق 22 شعبان 1428هـ

«الوسط»... وخمس سنوات على التحدي والاستجابة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في الفلسفة هناك مبدأ يقوم على معادلة «التحدي والاستجابة». التحدي يتشكل من العناصر الذاتية والنواة الأولى والمادة الأولية. وكل هذه المجموعات المشتركة تصنع التصورات والخطط والهيكليات وتبرمج الأفكار والمشروعات وتحدد لها الآليات وتبتكر أساليب مرنة للوصول إلى الأهداف وتحقيق الغايات.

العناصر الذاتية في البداية مهمة لأنها تعتمد على ما توافر لها من إمكانات لتعيد استخدامها وتوظيفها في سياق تتحدى أحيانا الواقع وأحيانا تتعامل معه بوعي وعقلانية حتى لا تبالغ في قدراتها وتسقط في فخ المغامرة والحسابات الخاطئة.

إلا أن القوة الذاتية مهما بلغت درجة النضج في معرفة الأشياء ليست كافية للنجاح في حال لم يتوافر الجانب الآخر من المبدأ الفلسفي. الوجه الآخر يتجاوز الذات لأنه يتعلق بالفضاء الموضوعي الذي تتحرك في ضوء توازناته القوة المؤسسة للفكرة والمشروع. والفضاء الموضوعي (العوامل الخارجية) اتفق على تسميتها بـ «الاستجابة».

الاستجابة هي الموضوع الذي يتفاعل مع الذات وهي تتألف من المحيط وما يمثله من ثقافة سائدة وتقاليد وعادات ورموز وإشارات وناس ومؤسسات عامة وخاصة. وكل هذه العناصر الموضوعية تلخص معنى الاستجابة. فإذا حصلت تكون فكرة المشروع نجحت وإذا امتنعت ولم تحصل الاستجابة تفشل الفكرة ويتفكك المشروع ويتبعثر ويأخذ بالتلاشي سنة بعد سنة إلى أن يضمحل.

الاستجابة ضرورة موضوعية للتحدي وهي في النهاية تعطي للإرادة الذاتية علامات النجاح أو الفشل، وهي أيضا ترفع هامات فكرة المشروع أو تحط من قيمته مهما بذلت الطاقات لتغذيته.

هذه المقدمة الطويلة نسبيا كان لابد منها لإعطاء فكرة عن «الوسط» التي تدخل غدا عامها السادس. فهذه الصحيفة شكلت منذ يومها الأول صيغة مصغرة لذاك المبدأ الذي يقوم على معادلة «التحدي والاستجابة».

المشروع في إطلالته الأولى بدأ متواضعا ولكن قوة الاستجابة أعطته ذاك الزخم المطلوب للاندفاع والتواصل والتفاعل مع الجمهور في فضاء المشروع الإصلاحي الذي فتح الباب للتنافس على السوق والتدافع الإيجابي لتوليد طاقات شابة صنعت في البحرين. الاستجابة لم تأت من فراغ وإنما ردا على حاجة. وشكلت «الوسط» تلك النواة الصلبة والمطلوبة موضوعيا لكسر ذاك الاحتكار الذي أنتج حالات من الإحباط والانكفاء والانعزال في دوائر كثيرة ومساحات لا بأس بها من جمهور شاب وطليعي ينتمي إلى «جيل ثالث» من القراء. الجيل الثالث كان الشرط الموضوعي لنجاح مشروع «الوسط» وتحويله إلى خط ثالث معتدل يخاطب الدولة والمجتمع من موقع المسئولية مستفيدا من سياق بدأ يشهد التحولات على مختلف النواحي والمستويات.

الآن مضت خمس سنوات على معادلة «التحدي والاستجابة» وبات بإمكان «الوسط» أن تتحدث عن تجربتها بتواضع ومن دون ادعاء. فالسنوات الماضية كافية للبدء في عقد المقارنة بين محطتين. والمقارنة بين محطتين لا تعني تقسيم الفترة إلى «قبل» و»بعد» بقدر ما هي تريد الربط بين فترتين.

«الوسط» في النهاية هي نتاج بيئة جغرافية وثقافية وجوارية ومحصلة تراكم معرفي تأسست عليه الكثير من التجارب الإعلامية والصحافية المرئية والمكتوبة. وانطلاقا من نظرية التواصل ورفض الانقطاع واسلوب القطع يمكن التقدم لتقييم تجربة في ضوء التحول النوعي الذي حصل بين محطتين.

التحول النوعي أيضا مبدأ فلسفي لأنه يقوم على نظرية التراكم الزمني (خطوة خطوة أو نقطة نقطة) ثم تحصل خطوة واحدة أو تسقط نقطة واحدة فيحصل التحول النوعي أو الانتقال (من دون انقطاع عن السابق) من القديم إلى الجديد. وهذا التحول النوعي لا يحصل عادة من دون قدرة على التكيف مع الواقع الموضوعي والتعامل معه بعقلانية وإرادة ذاتية لإعادة تكييفه مع ذاك الانتقال من محطة إلى أخرى. وبهذا المعنى الزمني يمكن القول إن «الوسط» شكلت بهدوء وتواضع ومن دون ادعاء تلك النقلة المطلوبة للتحول النوعي من ضفة إلى أخرى.

مصادفة مطلوبة

لعل المصادفة ساعدت «الوسط» على تحقيق تلك الخطوة المنتظرة للانتقال من مكان إلى مكان. فهذه الصحيفة اليومية المستقلة صدرت أولاَ وبعد انقطاع زمني عن عالم التطور في تقنيات الصحافة وما حققته آليا ومهنيا في حقل التعامل مع صناعة الخبر واختيار الصورة وتبويب الصفحات وترتيب شكلها وتنظيم هندستها في إطار هيكلية متماسكة وموحدة في منهجها وأسلوب كتابتها.

«الوسط» جاءت أولا في الترتيب الزمني بعد ذاك الانقطاع الذي خضع لمنطق احتكار السوق. والاحتكار في فلسفة الاقتصاد يعطل التنافس، وتعطيل التنافس يؤدي إلى البلادة وإضعاف الرغبة في الإبداع والابتكار. وإذا كانت المصادفة ساعدت «الوسط» على لعب دور القوة الذاتية الدافعة للانتقال موضوعيا من محطة إلى أخرى في عالم الصحافة، فإن الإطار العام الذي صدرت فيه شكل أيضا ذاك الحافز للتقدم. فالبلاد آنذاك كانت تمر في لحظات انتقالية أعطت فرصة للجمعيات الأهلية والأندية والتجمعات السياسية بالتحرك تحت سقف دستوري يشجع على الانتقاد وإبداء الملاحظات والتحفظ والمعارضة والمطالبة بحرية ومن دون قيود. وكل هذا المستجد أعطى «الوسط» تلك الشروط الموضوعية للنجاح الذاتي. فلو لم تكن «الاستجابة» متوافرة شعبيا وموجودة دستوريا لما كان «التحدي» وجد فرصته الزمنية لتأكيد ذاته.

عامل آخر أعطى «الوسط» رونقها الخاص وهو اعتمادها على التمويل المستقل. فالرأس مال البحريني الخاص ساهم إلى حد كبير في توفير تلك الفرصة لشق طريق مستقل في التعامل مع صناعة الأخبار وتقديمها بمهنية معقولة ومقبولة لقارئ يتمتع بقدر من الاطلاع وجمهور يملك معرفة ونال قسطه من العلم. تجربة «الوسط» في هذا المضمار أعطت ذاك النموذج الناجح للكثير من رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات للتفكير بإعادة تكرارها. وأهمية التجربة لا تقتصر على نطاق البحرين بل حصلت نماذج مشابهة في بعض دول الخليج حين تشجعت مؤسسات مالية واقتصادية على تقليد تجربة توافرت لها عناصر النجاح الذاتية والموضوعية.

دخول الرأس مال الخاص على قطاع الصحافة والنشر مسألة لها دلالتها ويجب عدم التقليل من أهميتها الثقافية. فهي على الأقل تعطي فكرة عن نوعية تنويرية من رجال الأعمال تقرأ جيدا تلك التحولات في عالم اقتصادي جديد بدأ يتأسس على «المعرفة». فالمعرفة رأس مال يعتمد على البشر كقوة منتجة في عالم متسارع في نموه ويحتاج إلى العقول للإبداع والابتكار. وهذه النقطة مهمة لأنها تمثل إطلالة جديدة على قطاع يلعب دوره في تعديل وتطوير شروط إعادة إنتاج اقتصاد معاصر يعتمد على قوة البشر لتصميم تلك الأشكال المعرفية المطلوبة في المستقبل.

الكلمة الأخيرة والأولى للقارئ البحريني. فهو شكل لهيئة تحرير «الوسط» وكوادرها وعمالها تلك المادة الحيوية التي تفاعلت سلبا وإيجابا مع تجربة متواضعة ولكنها واعدة في قدرتها على التحدي والصمود. استجابة أهالي البحرين لمشروع «الوسط» كان ذاك المشجع الثابت لتجديد الفكرة يوميا وإحاطتها معنويا والوقوف معها ومرافقتها خطوة خطوة ومنذ الساعات الأولى من صباح 7 سبتمبر/ أيلول 2002. فالقارئ كان أفضل محرر اعتمدت عليه «الوسط» لبناء قوتها الذاتية والدخول في عالم التحدي وفي ظل فضاء استجاب موضوعيا لتجربة منتظرة ومطلوبة. فالنجاح في النهاية مشروط وتتحكم في آلياته مجموعة قوانين منها ما هو ذاتي (التحدي) ومنها ما هو موضوعي (الاستجابة). شكرا للبحرين.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1826 - الأربعاء 05 سبتمبر 2007م الموافق 22 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً