تختلف المجتمعات التعددية عن المجتمعات التي تنطوي على نوع مقبول من الانسجام الثقافي والاجتماعي في كون الأولى لا تحتمل الحديث عن أقلية وغالبية، لأن الغالبية والأقلية في هذه المجتمعات ليست سياسية بل اجتماعية وثقافية بالدرجة الأولى، فالغالبية والأقلية لا تكون على أساس جمهوريين في قبال ديمقراطيين، أو عمال في قبال محافظين، أو ليكود في قبال العمل، أو إصلاحيين في قبال محافظين، بل هي غالبية وأقلية تتأسس على أساس جماعة دينية أو عرقية أو طائفية في قبال أخرى. وينطوي الحديث عن هذا النوع من الأقلية والغالبية على مطالبة بالتناسب الطردي بين ثقل الجماعة السكاني والحقوق والامتيازات السياسية، فكلما زاد عدد الجماعة كان نصيبها من الحقوق والامتيازات أكبر. وإذا عرفنا أن هذه غالبية وأقلية اجتماعية - وليست على أساس أحزاب وبرامج سياسية - فإن معنى هذا أن الجماعة ذات الثقل السكاني الأكبر ستكرس احتكارها للامتيازات السياسية بصورة دائمة إلى أن تدخل الجماعات الأخرى في تنافس معها بهدف زيادة حجمها السكاني بأية طريقة كانت بالتكاثر داخليا أو بالتكثير خارجيا. وهذا سيحول التنافس السياسي بين الجماعات إلى تنافس خطر ويؤذن بعواقب كارثية على الجميع؛ لأنه ليس تنافسا سياسيا بين برامج سياسية، بل هو تنافس اجتماعي مصحوب بتنافس ذي طبيعة حيوية ترتبط بقدرة الجماعة على التكاثر والتناسل.
وفي ظل غياب هذا النموذج المحفوف بالمخاطر في بلد مثل البحرين فإن الحديث عن غالبية وأقلية سيكون حديثا عن الأزمة السياسية باستمرار، أي أنه حديث لا معنى له إلا تعميق الأزمة أو التذكير بها. وإذا تذكرنا أن النموذج الذي تتأسس عليه اللعبة السياسية في البحرين لا يقوم على معادلة التناسب الطردي بين الغالبية والحقوق، فإن الحديث عن غالبية وأقلية اجتماعية حديث غير منتج إلا في الحدود التي تحدثنا عنها في مقال سابق. وأنا أعرف أن مثل هذا الحديث قد يغضب من يشعر أنه يمثل غالبية اجتماعية في البلد، إلا أنه من الثابت أن الشعور بكونك «غالبية» يعني تحمل عبء الحفاظ على هذه الغالبية والخوف من فقدانها باستمرار، وهو خوف تتحرر منه الأقليات التي تصرف جهدها في تحسين أوضاعها المعيشية وتحقيق التنمية لأبنائها من دون أن تدخل في صراع من أجل الحفاظ على عبء غير منتج بل هو أشبه بعملة غير قابلة للصرف في نظام النقد المعمول به في هذه البلاد. ولعل التحرر من عبء الغالبية هذا هو الذي يجعل للأقليات في دول العالم الثالث نفوذا اقتصاديا أو سياسيا لافتا كما هو حال اليهود في التاريخ الإسلامي، واليونانيين في مصر، والأرمن في الدولة العثمانية، والزرادشتيين في الهند، والصينيين في دول جنوب شرق آسيا، واللبنانيين والهنود في شرق إفريقيا. ولعل هذا عينه هو الذي جعل شيعة عمان - وفيهم شيعة من الدياسبورا البحرينية التي تحدثنا عنها في مقالات الشتات السابقة - «يمثلون أقلية ناجحة؛ ولديهم نفوذ سياسي واقتصادي واسع» .
الذي أقوله هنا هو أن استمرار هذه المخاوف والهواجس يعني تأجيل مهمة تحقيق التوافق داخل الدولة، وأن الأجدى بدل الاستمرار في تحمل عبء كونك غالبية والاستغراق في ملفات سياسية احتجاجية تعمّق الأزمة وتبقي التنازع السياسي - ومن ورائه أو من أمامه التنازع الطائفي - مفتوحا ومستعرا، الأجدى بدل كل هذا هو العمل بصدق من أجل تحقيق توافق مقبول حول الدستور، لأن هذا التوافق هو الخطوة الأولى لبناء «الديمقراطية التوافقية» التي يقول فيها آرنت ليبهارت إنها أكثر أنظمة الديمقراطية ملاءمة للمجتمعات التعددية كما أن التوافق بشأن الدستور هو الخطوة الأولى لبناء «الوطنية الدستورية» التي يرى هابرماس أنها الصيغة الأكثر نفعا للمجتمعات ذات التعددية الثقافية، والتي يقول فيها عبدالهادي خلف، وهو محق في هذا، إنها هي «الطريق المجدي للخروج من مأزق امتد لخمسة عقود» (بناء الدولة في البحرين، ص17). والحق أنه مأزق امتد طويلا لأكثر من ثمانية عقود في مجتمع ذي «تنوع عميق».
ومع هذا فإن قبول هذه النماذج والصيغ سيكون متعذرا ما لم يكن هناك توافق بشأن القيم الأساسية التي ينبغي أن يتضمنها الدستور. والأمر الثاني الذي يترتب على الأول هو تجاوز واحد من أوضح «عيوب الدولة الحديثة» بحسب جون جراي، وهو الهوس بالتقنين وتسييس العملية القانونية، وقد «حدث هذا في الولايات المتحدة من خلال التضخم المدمّر لخطاب الحقوق الذي يصبّ بموجبه كل نزاع أخلاقي وسياسي في لغة خطاب الحقوق الذي يتسم بتقيّده المفرط والحرفي بالقانون» (ما بعد الليبرالية، ص40). صحيح أن الالتزام بالقانون هو علاج ناجع للظلم والتمييز، إلا أن الهوس بالتقنين في المجتمعات التعددية - وتحديدا تلك التعدديات المتعادية والمتخاصمة - قد يكون أرضية خصبة لتنشيط حمى التنافس بين الجماعات، أي لخلق أزمات سياسية جماعية، وخصوصا إذا كان الرهان المعقود على هذا القانون أو ذاك عاليا وحاسما ومصيريا. أقول هذا لأن دستور 2002 - والحال هو هو في دستور 1973 - يعطي أهمية كبيرة للتنظيم القانوني، ما يعني أن الجماعات ستتنافس لدخول المجالس التشريعية، لأن معظم الحقوق والحريات العامة في الدستور مرهونة ومقيدة بالتنظيم القانوني، وذلك من خلال عبارات من قبيل: وفقا «للأحوال التي يحددها القانون/ مادة 17-أ»، أو «وفقا للقانون/مادة 19-أ»، أو «وفق أحكام القانون/ مادة19-ب»، أو «وفقا للشروط والأوضاع التي يبينها القانون/مادة 23 و24»... إلخ. وتكمن خطورة هذه العبارات في أنها تمثّل قيدا دستوريا على الحقوق والحريات العامة، أي أنها تجعل هذه الحريات والحقوق تحت رحمة التنظيم القانوني اللاحق، في حين كان ينبغي حذف هذه العبارات لتكون الحريات والحقوق العامة مصانة بإطلاق بحيث تكون مواد الدستور قيدا على التنظيم القانوني اللاحق لا العكس. والغريب حقا أن المواد الدستورية الأخرى التي تصون الحريات والحقوق العامة قد جرى تفريغها من قيمتها الحقيقية كقيد دستوري على التنظيم القانوني اللاحق، وذلك من خلال حصر الصيانة وعدم قابلية التعديل لا في الحريات والحقوق العامة بصورة مطلقة، بل في «جوهر الحق والحرية» (مادة 31). أما المادة (120/ج) فهي تنص على أن المحميّ من التعديل فيما يتعلق بالحريات والحقوق إنما هو «مبادئ الحرية والمساواة المقررة في هذا الدستور». ما يعني أن المصان هنا ضد تعديات التنظيم القانوني واقتراح التعديل التشريعي هو الجوهر والمبادئ وليس الحرية والحق بالمطلق.
تقوم هذه المواد الدستورية برهن «الحريات والحقوق العامة» للتنظيم القانوني اللاحق، ويسهم هذا الرهن الدستوري في إعطاء قيمة كبرى لعملية التنظيم القانوني، أي للجهة التي ستقوم بتشريع القوانين وإصدارها وتعديلها، ما يعني أن الجماعات ستكون مستنفرة غاية الاستنفار للدخول في تنافس محموم للفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد داخل مجلس النواب، ومن ترشيحات مجلس الشورى. وبهذا المعنى أصبح الدستور يشعل حمّى التنافس الحماسي بين الجماعات والقوى. وفي مجتمع متعدد ومنقسم طائفيا - وتأتيه أوقات يكون متعاديا - فإن مثل هذا التنافس المحموم سيشكل ضغطا هائلا على النظام السياسي والاجتماعي في البلاد. فهو أشبه بمن يدفع بمجموعة جائعين في سباق من أجل نيل وجبة دسمة. فمن المؤكد أن التهاون في سباق كهذا يعد جنونيا، فالوجبة دسمة والجوع كافر!
وبتعبير آخر، فإن مواد الدستور تؤسس لنموذج الديمقراطية التنافسية (الخصومية)، لا الديمقراطية التوافقية التي هي أنسب للمجتمعات التعددية من أجل خفض حدة التنافس التي قد تتصاعد بين هذه الجماعات المتنافسة. فإذا كانت الديمقراطية التنافسية ملائمة للمجتمعات المتجانسة، وإذا كان هذا النوع من الديمقراطية «قد استكمل شروط صلاحيته القانونية والسياسية في سياق تكوّن دول ومجتمعات موسومة بقدرٍ كبير من التلاحم البشري، والانصهار الإثني، والاستقرار السياسي» (مستقبل الديمقراطية التوافقية في المغرب، ص 96)، فإن الأمر مختلف في مجتمعات موسومة بالانقسام والتنوع و«التباينات الإثنية والعرقية والجهوية، وصعوبة الاستقرار السياسي، وعُسر ديمومته، وتواتر موجات العنف الاجتماعي». ففي مثل هذا النوع من المجتمعات فإن الديمقراطية التنافسية قد تكون عاملا من عوامل تأزيم الوضع السياسي والاجتماعي. وبحسب آرنت ليبهارت فإن المتنافسين في المجتمعات المتجانسة يستطيعون «التشاحن بأمان»، لأن محط الرهان على اللعبة السياسية ليس عاليا، «لهذا فإن الأسلوب الخصومي يناسب المجتمع المتجانس تماما» (الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد، ص51). في حين أنه قد يعرّض «وحدة النظام وسلامه إلى ضغط شديد» إذا ما جرى في مجتمع ذي تنوع عميق. وسبق لبريندون أوليري أن قال «إن محاولة تطبيق الانتخاب الحر في يوغوسلافيا سيكون كارثيا» (القومية والعقلانية، ص433). والسبب أن مواضع الرهانات السياسية كثيرا ما تكون عالية جدا في هذا النوع من المجتمعات؛ لأن من يتمكن من حصد مقاعد أكبر في مجالس التشريع ستكون «الحريات والحقوق العامة» تحت قبضته، ما يعني أن الجماعات والقوى الخاسرة، أو التي لم تفز بمقاعد كافية تؤهلها للقيام بدور تشريعي أو اعتراضي حاسم، ستكون تحت رحمة جماعة الغالبية، وستكون أيدي تلك الجماعات على «قلوبها» مع أية رغبة بقانون ترفعها هذه الجماعة. ولهذا ينصح ليبهارت باعتماد الديمقراطية التوافقية ونمط الائتلاف الواسع لمثل هذه المجتمعات، وذلك بديلا عن نموذج الديمقراطية التنافسية الخصومية التي تفترض وجود «أكثرية وأقلية» و«حكومة ومعارضة». والحق أن الأفضل في كلا النموذجين (الخصومي والتوافقي) أن لا يكون محط الرهان عاليا بين المتنافسين، لكي لا تتصاعد حمى التنافس التي تسبب ضغطا شديدا على النظام السياسي والاجتماعي. ويمكن أن يتحقق هذا من خلال النص الدستوري الصريح على أن الحقوق والحريات العامة مصانة بإطلاق من دون تقييد لها بالتنظيم القانوني اللاحق، وهذا ما يعني فتح المجال أمام إمكان الطعن في دستورية أي قانون يصدر وينال من «الحق والحرية». والأمر الآخر هو النص الدستوري على أنه لا يجوز تعديل المواد الاستراتيجية والحيوية جدا في الدستور إما بصورة مطلقة وإما من خلال تقييدها بشرط الإجماع الوطني. وبحسب جان جاك روسو فإنه «كلما كانت المسائل التي تناقش أهم وأخطر شأنا، كان على الرأي الذي يجب أن يسود أن يكون أقرب إلى الإجماع» (الديموقراطية التوافقية في مجتمع متعدد، ص52). والمقصد من وراء هذا هو حماية المجتمعات - والمجتمعات التعددية بشكل خاص - من تنافس قد يكون مهددا لنظامها السياسي والاجتماعي.
وللحديث صلة في الأسبوع المقبل...
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1824 - الإثنين 03 سبتمبر 2007م الموافق 20 شعبان 1428هـ