العدد 1824 - الإثنين 03 سبتمبر 2007م الموافق 20 شعبان 1428هـ

البصرة نموذجا... بعد الانسحاب البريطاني

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الانسحابات الجزئية التي بدأت القوات البريطانية تنفيذها في البصرة تطرح أسئلة ميدانية بشأن الاحتلال الأميركي للعراق ومصيره في الأسابيع والأشهر المقبلة. فالانسحابات محدودة ولكنها بداية تراجع بريطاني شامل سيعلن عنه في نهاية السنة الجارية. والأسئلة السياسية التي ستطرح من الآن ستتناول مختلف القطاعات العسكرية وخصوصا تلك التي تنتمي إلى «قوات التحالف» والدول الداعمة لمشروع الغزو الأميركي.

الولايات المتحدة منذ اتخاذها قرار الهجوم في نهاية العام 2001 اعتمدت على قواتها واعتبرت التأييد البريطاني والاسباني والايطالي والأسترالي والياباني والكوري الجنوبي مجرد إضافات معنوية لا قيمة عسكرية لها في ميزان القوى. ولكن أميركا كانت بحاجة إلى هذه القوات الرمزية لتغطية أفعالها سياسيا، لأن كسب بعض التأييد الدولي يعطي نفوذها الميداني تلك الشرعية التي تحتاجها لإقناع الناخب (دافع الضرائب) بأنها ليست وحدها في الساحة العراقية.

هذا الغطاء الدولي بدأ يتفكك خطوة خطوة بعد انسحاب اسبانيا ثم ايطاليا وغيرهما من «دول التحالف» في أوروبا الشرقية سابقا. الآن بدأت بريطانيا ترفع الغطاء السياسي عن الوجود الأميركي. وهذا يعني الكثير لإدارة واشنطن لأن لندن تعتبر قوة عسكرية رمزية ومساندة ميدانيا للتوجهات الدولية العامة للولايات المتحدة.

إلى ذلك تعتبر بريطانيا تقليديا صاحبة خبرة تاريخية في التعامل مع المستعمرات السابقة وتمتلك تجربة في إدارة العلاقات العامة مع سكان المناطق التي كانت خاضعة للتاج الملكي. وبهذا المعنى شكلت مواقف حكومة طوني بلير حاجة نفسية لتيار «المحافظين الجدد» في اعتبار أن التحالف الثنائي يؤسس قواعد انطلاق صلبة تشجع كل الدول المترددة على الوقوف إلى جانب الاحتلال وخصوصا في منطقة استراتيجية تشرف على خطوط مواصلات واتصالات وغنية بالثروات الطبيعية.

منذ احتلال العراق في العام 2003 توافقت قوات الغزو على توزيع الأدوار والمناطق وكانت حصة بريطانيا جنوب بلاد الرافدين (البصرة ومحيطها) التي تقع على تقاطع الحدود مع إيران والكويت والسعودية.

اختيار بريطانيا لمنطقة الجنوب جاء بناء على طلب حكومة بلير بذريعة أن لندن تمتلك تلك الخبرة والمعلومات والعلاقات التقليدية مع عشائر البصرة ومحيطها ومحافظاتها. ولأنها تعرف وسائل التعامل معها قررت القوات البريطانية التمركز في تلك الدائرة الحساسة مستخدمة تجربتها السابقة المبنية على سياسة اعتمدتها في العام 1920 وأخضعت بموجبها سلما وحربا أهالي الجنوب.

في البداية نجحت بريطانيا جزئيا في سياستها، حين أعادت توظيف معلوماتها السابقة لبناء علاقات مع زعماء العشائر والمناطق. فالخبرة أكسبت القوات البريطانية سمعة معقولة مقارنة بتلك الأخطاء والفضائح التي ارتكبتها القوات الأميركية في وسط العراق وغربه وفي العاصمة (بغداد). ولهذا السبب شهد الجنوب بعض الاستقرار الأمني قياسا بتلك الفوضى الهدامة التي عصفت ببلاد الرافدين.

استمر هذا الوضع أكثر من سنتين إلى درجة علت بعض الأصوات في واشنطن تطالب إدارة جورج بوش بتقليد التجربة البريطانية الناجحة جزئيا في الجنوب، والاستفادة منها من خلال استقدام بعض القطاعات العسكرية واستخدامها في بغداد للمساعدة على ضبط الأمن واحتواء الفوضى. وفعلا وافقت حكومة بلير على الطلب الأميركي وأرسلت قطاعات من قواتها إلى الوسط والعاصمة ولكنها أصيبت بالشلل وفشلت في تأمين تلك الصورة السياسية الناجحة التي كانت إدارة بوش بحاجة إليها.

بعد أشهر اضطرت لندن إلى سحب قواتها التي استعارتها واشنطن وإعادتها إلى البصرة ومحيطها لاحتواء الفوضى التي بدأت تنتشر في محافظات الجنوب وتلك المناطق الواقعة على الحدود الشرقية مع إيران. ومنذ تلك الفترة بدأت تنهار الصورة البريطانية وأخذت تتراجع نسبيا بسبب الضغوط واندفاع العشائر لأخذ مواقعها في دائرة حساسة وغنية بالنفط.

بعد العام 2005

منذ العام 2005 بدأت قوات الاحتلال البريطانية تعاني من الضعف البنيوي نتيجة تفكك تلك الشبكة السياسية التي اقامتها مع زعماء العشائر مستخدمة الرشوة المالية والتنفيعات والسكوت على خطوط التهريب. فالاحتلال اكتشف بالملموس أن معلوماته قاصرة وتجربته مع العشائر في عشرينات القرن الماضي لم تعد صالحة في مطلع القرن الواحد والعشرين. وأدى هذا النقص في الرؤية إلى تعطيل القدرة على فهم المتغيرات التي طرأت على المنطقة خلال تلك الفترة الفاصلة بين زمنين.

هذا الفشل الميداني في احتواء التحولات الاجتماعية فرض شروطه السياسية على حكومة بلير، فبدأت لندن بإعادة قراءة التجربة بذهنية مختلفة وتوصلت إلى قناعة بأن الحل هو الانسحاب التدريجي وتسليم سكان المناطق الجنوبية مسئولية الأمن وإدارة المدن والمحافظات ذاتيا.

فكرة تجميع القوات في قصور وثكنات وقواعد عسكرية تمهيدا للانسحاب بدأت في عهد بلير. ولكن صلته الخاصة بإدارة بوش أقنعته بتأخير القرار حتى لا يصاب الرئيس الأميركي بضربة معنوية أو أزمة نفسية تطيح بالكثير من الصور الزاهية التي أطلقها عشية الاجتياح.

الآن أصبح بلير خارج السلطة ورئيس الحكومة البديل (غوردون براون) يملك رؤية تتعارض في بعض زواياها مع مشروع أميركي قرر سياسة تقويض العراق ولم يخطط أبدا لفكرة إعادة إعمار البلد ومنع العلاقات الأهلية من الانهيار والتفكك إلى مناطق طائفية ومذهبية تبرر قيام كانتونات (دويلات فيديرالية).

قرار حكومة براون بالانسحاب المبرمج من البصرة وجنوب العراق يعتبر لكمة سياسية لإدارة بوش التي يبدو أنها تتوقع المزيد من التفكك في «قوات التحالف» والدول المؤيدة للاحتلال. هذا على المستوى السياسي وما تمثله القرارات من تداعيات في إطار علاقات الدول الكبرى ومصالحها. ولكن النتيجة على المستوى الميداني هو ظهور معالم «الكانتون» الأول الذي يتوقع أن ترتسم حدوده السكانية في جغرافية بلاد الرافدين. فالجنوب الآن خارج السيطرة منذ فترة ويتوقع أن تتسع رقعة انتشار «الفوضى» في ظل مظلة عسكرية عراقية محلية إلى وقت تعلن فيه لندن انسحابها النهائي من البصرة ومحافظاتها.

«نموذج» البصرة الذي يرجح أن يتشكل واقعيا وبحكم المعادلة السكانية من الآن إلى نهاية السنة الجارية يعطي فكرة موجزة عن عراق المستقبل. فهذا النموذج «الكانتوني» لا يستبعد أن يتكرر في أكثر من منطقة ومحافظة عراقية. والترجيحات تشير إلى احتمال قيام ثلاث دويلات في حال استمر التجاذب الأهلي وما يعنيه من تشرذمات طائفية ومذهبية واقوامية.

الانسحابات الجزئية التي بدأت القوات البريطانية تنفيذها في البصرة مترافقة مع تكتيك تسلم وتسليم المواقع والقصور والقواعد للقوات العراقية تطرح فعلا أسئلة ميدانية بشأن الاحتلال الأميركي لبلاد الرافدين. فهل الخطوة البريطانية بداية هجرة الجيوش من الجنوب إلى الشمال وعودة الطيور إلى مواطنها الأصلية أم أن إدارة بوش ستبقي قواتها في أماكنها؟

التراجع الميداني أحيانا يعطي اشارات سياسية متعارضة. فهو من جانب يشير إلى ضعف أو عجز على السيطرة، وهو أيضا يشير في جانب آخر إلى قراءة سياسية تراهن على اندفاعات إقليمية ودولية قد تكون مخالفة للتصورات الأولية المتسرعة في استنتاجاتها. فالانسحابات تعني فراغات أمنية ربما تساهم في توليد شرارات تدفع العلاقات الأهلية نحو التضارب والفوضى، وربما أيضا تؤشر إلى بدايات تأسيس «دويلات» تتحرك في دوائر جغرافية محكومة بتوازنات طائفية ومذهبية وعشائرية.

البصرة في هذا المعنى ستكون ذاك النموذج البدائي والمصغر عن مشهد ممتد في بلاد الرافدين. ومن الآن إلى نهاية السنة الجارية ستظهر الكثير من الإشارات الميدانية في الجنوب التي يمكن مراقبتها ومتابعتها لمعرفة المسارات السياسية التي سيتجه اليها العراق في الفترة المتبقية من عهد بوش. فالاتجاه الذي ستسير إليه البصرة (الخراب أم العمار) سيعطي صورة مكثفة عن سيناريوهات كثيرة لاتزال متداولة وقيد الدرس بشأن العراق ومحيطة الجغرافي والجواري.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1824 - الإثنين 03 سبتمبر 2007م الموافق 20 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً