هل يُضير الولايات المتحدة الأميركية وهي تقرأ يوميا الأرقام التي يردح بها صباح مساء مناوئوها ومُناكفوها في العالم من أن خمسة وثلاثين مليون فقير يهجعون في أحشائها ما دامت هي تعلم (وغيرها يعلم) بأنها تمتلك زهاء ثمانين في المئة من القوة الاقتصادية العالمية؟!
وماذا يُضيرها أيضا من تلك الأرقام عندما تشير إلى أن واحدا وثلاثين مليون مواطنا أميركيا لا يعرفون القراءة والكتابة وأن ستين في المئة من الأميركيين لا يقرأون الكتب، ما دامت متيقنة (وغيرها متيقّن) أنها تُنفق أكثر من أربعين في المئة من مجموع ما ينفقه العالم بشماله وجنوبه وغربه وشرقه على البحث العلمي والتطوير!
وماذا يضيرها أخيرا من تلك الأرقام التي تتحدث عن انهيار وشيك للاقتصاد الأميركي سيجعل ناتجهم القومي لا يُساوي فائدة الديون الداخلية ما دامت مُدركة (وغيرها مُدرك) أن اقتصادها لايزال من أكبر اقتصاديات العالم بناتج محلي إجمالي يزيد عن الاثنين وثلاثين في المئة من كامل الاقتصاد العالمي! وأن العامل الزراعي الأميركي يُنتج 650 ضعف ما ينتجه عامل زراعي في فيتنام!
في الجهة الأخرى من الموضوع ماذا يُضير الجمهورية الإسلامية الإيرانية عندما يقول الأميركيون بأن النمو الاقتصادي في إيران يمر بأسوأ أيامه منذ ثلاثين عاما في حين أن الإيرانيين يعلمون (وغيرهم يعلم) بأن مؤشرات النمو زادت عن الستة في المئة، مع ارتفاع في قيمة توظيف الاستثمارات الأجنبية من 2.7 مليار دولار إلى 10.7 مليارات دولار، وماذا يضير الإيرانيون أيضا عندما يُردد خصومهم من أن تراجع الرخاء الاجتماعي سيُولّد ثورة على الثورة، في الوقت الذي هم مُتيقّنون فيه (وغيرهم متيقن) من أن الحكومة التاسعة وخلال العامين الماضيين تمكنت من رفع الرخاء الاجتماعي من 31.8 في المئة في العام 2004 إلى 35.6 في المئة العام الماضي، مع ارتفاع في الصادرات غير النفطية إلى 16 مليارا و300 مليون دولار وخفض نسبة التضخم من 15.2 في المئة في العام 2004 إلى 13.6 في المئة، وتوفير أربع مليارات دولار من خلال تطبيق نظام تقنين البنزين، ورصد رواتب تأمينية لأكثر من مليوني طالب إيراني يُنتظر دخولهم لسوق العمل المحلية، وتوزيع « أسهم العدالة » على شريحتين اجتماعيتين صُنّفتا على أنهما تندرجان تحت عنوان الفقر بملغ إجمالي تجاوز 2.75 مليار دولار على 4.6 ملايين إيراني! وماذا يُضير أخيرا الجمهورية الإسلامية الإيرانية عندما يتحدث البعض عن هشاشة القوة العلمية والوعي السياسي لدى الإيرانيين، في حين أنهم مُدركون إلى وجود ثلاثة ملايين طالب جامعي، و1801 مطبوعة وسبعة ملايين نسخة من الصحف تُوزّع في الداخل يوميا، وأربعين شبكة تلفزيونية، وثلاثمئة دار للسينما وطباعة أكثر من 153.753 مليون مُجلّد سنويا وعن بلوغ نسبة التعليم إلى خمسة وثمانين في المئة !
وبالتالي فإن ما أودّ أن أخلُص إليه هو أن مجموع هذا التناجز المقلوب أحيانا علـى هيئة «تعيير» أو «تسفيه» هو أصلٌ صميم من أضلع الصراع المفتوح بين الأنداد والذي يتبدّل كالحرباء طبقا لميزان المعركة القائمة، وإذا كان بعض المثقفين العرب لا يزال مُجانبا للحكمة الخازنية (نسبة للأستاذ جهاد الخازن) بأن «صداقة الولايات المتحدة الأميركية أسوأ من معاداتها» فعليه ألاّ يتبرأ من حقيقة سوء السياسات الأميركية على أقل تقدير لكي لا يتماها بالكامل في صداقة معها هي في الحقيقة مفقودة أصلا، بل ويُصرّ على أن يكون راية في معاركها ضد أطراف أصيلة في المنطقة ليجد نفسه تاليا كأحد أهم الأدوات التي تنتصر بها الإدارة الأميركية في معاركها ضد أعداء مزدوجين وأصدقاء مزدوجين أيضا.
في التفاصيل قد أعذر البعض عندما يطرح مجموعة من التساؤلات بشأن السياسة الإيرانية الخارجية، وخصوصا تلك المتعلقة بالملف العراقي وما يجري فيه بين الأميركان والإيرانيين من مفاوضات منذ مايو/أيار الماضي، ولكن ما لا يُعذر في ذلك هو التحليل المعكوف لأصل تلك المحادثات وتفسيرها على أنها صِنْوَنا لاحتلال قائم يطمح في تقاسم النفوذ، وبالتالي فإن ذلك التحليل سيسعى وبشكل آلي إلى تحويل العلاقة النّديّة بينهما (طهران وواشنطن) على أنها سيناريو مواجهة مُفتعل وإسفاف بالعقل العربي والإسلامي وتآمر على الأمة بطريقة خبيثة، وهو ما يعني أن المثقف العربي ونتيجة الإحباط التام الذي توارثه منذ بداية القرن الماضي لم يعد قادرا على استيعاب طبيعة الصراع السياسي بين قوى تسلطية تسلّلت إلى المنطقة بريبة وكيدية وأخرى أصيلة ومتشاطئة معنا لكنها مناكفة للأولى لاعتبارات سياسية وعقائدية، وإذا ما ثبّتنا أنه لم يعد قادرا على فهم ذلك فإنه ومن باب أولى لم يعد قادرا بالمرة على تلقّي (الكيفية) التي استطاعت بها هذه القوة الأصيلة في حشد ما أمكن من مصادر إضعاف للعدو وإرهاقه ومن ثم إجباره على الجلوس معها وفرض إيقاع ذلك على طبيعة الصراع القائم، فبعضها ذاتي والآخر جيبولوتيكي وصَهْرِهَا داخل مساق إعاقة مشروعات الهيمنة، بل وجعلها مفاتيح للتهدئة وللتصعيد أحيانا.
وبطبيعة الحال فإن عدم استيعاب الكثير من السياسيين والمثقفين العرب لذلك النوع من الصراع نتيجة تراكمات هائلة صيّرت من وجدانه حاضنة خصبة لليوتوبيات والنهايات المُكلفة، فإنه لا يمنع (وبالحد الأدني) ضرورة استحضارهم للذاكرة القريبة والتي لا يتجاوز عمرها الخمسين عاما، فالمباحثات بين خصمين لا يعني أبدا أنهما حليفين، وأن استمرار الصراع بين ندّين لا يعني أنهما لا يجلسان على طاولة مباحثات، وهو مدخل حجّة غير مكتملة بالنسبة لهم ولنا أيضا، لأن العلاقات بين الدول لا تُقرأ باختزالات وتجزئيات غير مترابطة، فالحرب التي دارت بين الشيوعية والرأسمالية وبتمثيلاتها على الأرض (الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي والدول التي دارت في فلكهما) استُخدِمَت فيها أقذر الوسائل بُغية تفتيت البُنى العقائدية والفكرية والسياسية والعسكرية وحتى الثقافية للمُعَسكَرَيْن، فاستخدمت هيئة الأمم المتحدة والتحالفات والأحلاف العسكرية، كما استُخدمت الأفلام ودور السينما والموسيقى وسياسة ترويج الذوق في الطعام واللباس والغناء والفن في مناطق النفوذ والاحتراب، لكن تلك الحرب المستعرة لم تمنع من أن يلتقي ستالين وروزفلت بعد الحرب العالمية الثانية أو الرئيس فورد بليونيد بريجنيف والتفاوض بشأن السلاح واتفاقات هلسنكي بشأن مبادىء حقوق الإنسان، أو لقاء الزعيم الصيني دينغ كسيوبينغ مع جيرالد فورد، في ديسمبر/ كانون الاول 1975 أو بين الأخير وماو تسي تونغ في بكين، بل إن هذه العلاقة بين الشيوعية والرأسمالية تطورت إلى فتح خط ساخن بين واشنطن وموسكو خلال الستينات والسبعينات بعد أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا في العام 1962 ولاحقا اتفاق الحد من الصواريخ الباليستية في العام 1972، والأكثر من ذلك فإن الحروب التي نشبت بالوكالة بين القوتين العُظميين كان فيها الخصمان يُمسكان بقرار إخماد أوراها كما حدث بالتحديد في الحرب الكورية (1950 - 1953) ما بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، وبالتالي فإن المباحثات التي تجرى بين الأميركان والإيرانيين لا يجب تحميلها أكثر مما يجب، أو عبر مزايدات إعلامية تحريضية، غاية الأمر ومنتهاه هو أن الدول المستهدفة في المنطقة وبالتحديد سورية وإيران لم تُرِدا لواشنطن أن تنجح في مسعاها المُسمّى زورا «تحرير العراق» لكي لا يُؤهلها ذلك الدخول في مواجهة معهما وبالتالي فرض هوية سياسية واقتصادية وثقافية جديدة للشرق الأوسط يكون للكيان الصهيوني قوام القيادة فيه وهو ما دفع بالإيرانيين لأن يتّبعوا سياسة مزدوجة في العراق عبر حماية العُمق الديني والسياسي العراقي من جهة وعبر دعم المقاومة المُسلحة من جهة أخرى لتقويض مشروع الاحتلال الأميركي هناك، وهو ما فعله السوريون أيضا من دون تعاطيهم مع النظام السياسي الحاكم إلى ما قبل زيارة المالكي الأخيرة. وإذا كانت غالبية الدول العربية قد أحجمت عن فتح سفارات لها في بغداد فلا يتصوّر أحد أن ذلك الإحجام هو من منطلق ممانعة للمحتل لأن علاقة تلك الأنظمة مع الولايات المتحدة هي علاقة تحالف واضحة منذ زمن وعلاقة تسهيلات عسكرية منذ عشرات السنين، كما أن الكثير من هذه الأنظمة تتحمل جزءا مهما من ضياع النفوذ السياسي العربي في العراق والذي كما يعلم الجميع قد تراجع بشكل كبير منذ الغزو العراقي للكويت. ما يهم الشعوب العربية اليوم هو تصحيح الكثير من السياسات التي لم تتم مقاربتها بشكل صحيح سواء من قبل الأنظمة أو من قِبل العقول العربية المُفكّرة، خصوصا في ظل وضع عربي مترد على مستوى التنمية البشرية وعلى مستوى الحريات العامة والأمن القومي عبر وجود تهديدات حقيقية صهيونية، وبالتالي فإن فتح جبهة عربية مُفتعلة مع إيران سواء سياسية أو عسكرية أو فكرية ثقافية هو خلط للأوراق وتصريف غير لائق لخيارات الأمة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1823 - الأحد 02 سبتمبر 2007م الموافق 19 شعبان 1428هـ