بعد أكثر من مئة يوم على معارك «نهر البارد» استخدم فيها الجيش اللبناني مختلف الأسلحة الخفيفة والثقيلة ودفع ثمنها نحو 180 شهيدا بدأت معالم الحرب تتضح صورتها الميدانية. الخسائر البشرية كبيرة والدمار هائل الحجم وإعادة الإعمار تحتاج إلى وقت وملايين الدولارات.
الصورة الميدانية مرعبة في الحسابات الإنسانية والبشرية، ولكن الجانب السياسي من الصورة، وهو الأهم، لم تتضح معالمه حتى الآن. الأسئلة التي طرحت في بداية المواجهة لاتزال مطروحة. من هي هذه الجماعة المسلحة؟ من دربها ومولها؟ من أرسلها ولمصلحة من أرسلت؟ ومن هي الجهة المستفيدة من معركة مفتعلة وكان بالإمكان تجنبها والاستغناء عنها؟ وما هي الفائدة التي جنتها هذه المجموعات الغريبة الأطوار والغامضة الأهداف؟ لماذا ارتكبت هذه «الفئة الباغية» جريمة قتل الجنود بأسلوب متوحش وغير مبرر أخلاقيا ودينيا؟ ومن يقف وراء هذه المجموعات وما هي الرسالة التي أرادت توجيهها؟ وماذا تعني الرسالة، وماذا تريد أن تقول؟
أسئلة لا تنتهي ويمكن رصف المزيد منها من دون التوصل إلى جواب واضح أو مقنع. فإذا كان الهدف فلسطين المحتلة فإن الموقع يبتعد أكثر من 200 كيلومتر عن الحدود الجنوبية؟ وإذا كان الهدف هو إقامة «إمارة إسلامية» في الشمال اللبناني فإن وسيلة القتل المجاني واستدراج الجيش والناس والقرى المحيطة بالمخيّم أدّت إلى إطلاق النار باتجاهات خاطئة؟ أما إذا كانت الغاية احداث فوضى أمنية وزعزعة الاستقرار واشغال المؤسسة العسكرية بمعارك جانبية تستهدف استنزافه وشرذمته فإنّ النتائج الميدانية أعطت إشارات مضادة، إذ خرج الجيش أكثر تماسكا واكتسب سمعة وشعبية لم يعهدها من قبل. أمّا الفوضى التي كانت متوقعة فقد تم احتواء تداعياتها حين طوّقت الأزمة في دائرة مربعات صغيرة وعزلت عن محيطها ومنعت من التدحرج من الشمال إلى الوسط والجنوب.
إذا لماذا حصل كلّ هذا الخراب الكبير وكيف يمكن قراءة الأزمة وتحليلها واستخلاص العبر منها لمنع تكرارها أو انزلاقها من مكان إلى آخر؟
الرد على سؤال «لماذا افتعل هذا الخراب ولمصلحة مَنْ ومن هو المستفيد» يحتاج فعلا إلى وقت للتفكير، وينتظر أنْ تنشر ملفات التحقيق القضائي الذي أجرته الأجهزة المختصة مع الأسرى والجرحى والموقوفين. فالاعترافات تعتبر مادة خام ودسمة في معلوماتها للاطلاع على كيفية نجاح هذه المجموعات في بناء شبكة من الإنفاق والاتصالات والتدريبات والاستعدادات والتجهيزات الكافية التي كانت من الأسباب التي ساعدتها على التخندق طوال مئة يوم.
الاعترافات مهمة للاطلاع والاستخبار، ولكنها ليست المسألة المطلوبة لتوضيح الجانب السياسي من الصورة. فالجانب السياسي يبقى الأهم، لأنه يعطي فكرة عن تلك الآليات التي تحرك مخيلة البشر وتدفعهم إلى المغامرة وخوض معارك وهمية ضد جنود أو مؤسسات أو قوى أو دولة أو مقاومة أو مخيّم فلسطيني أو شعب لبناني. فكلّ هذه الأهداف تعتبر وهمية في المعنى السياسي للكلمة. وكلّ الضحايا من الجيش والقرى المحيطة والمخيّم لا ذنب لهم ولا دور ولا موقع يعطل أو يعرقل استراتيجية الصراع مع عدو لا خلاف على مكان وجوده الجغرافي. إذا كان الهدف هو القتل للقتل وافتعال معارك من أجل المعارك فهذا يعني أنّ الطرف الذي تحرك في الشمال مستفيدا من غياب الدولة عن المخيّمات لا يتمتع برؤية سياسية وإنما هو مجرد وعاء فارغ لا وظيفة خاصة به ولا يملك ذاك البعد المستقل في التعامل مع الأشياء والوقائع.
المسألة حتى الآن غامضة سياسيا وربما تحتاج إلى وقت لمعرفة «جنس» و»طبيعة» مثل هذه المجموعات المجهولة الهوية والعنوان. إلا أنّ المسألة ميدانيا حسمت كما يبدو لمصلحة الجيش الذي نجح في خوض أكبر معاركه منذ تأسيسه.
ماذا بعد البارد؟
يبقى السؤال: ماذا بعد معركة البارد؟ وما هي الدروس المستفادة وهل يمكن البناء عليها لمنع تكرارها؟ هناك الكثير من الإشارات السياسية التي يمكن التقاطها وإعادة ترتيبها لرسم صورة واضحة عن تلك الحرب المفتعلة. ونبدأ بالأولى وهي الشعب الفلسطيني في اعتبار أنّ الدمار وقع في مخيّم يعيش فيه نحو 45 ألفا. فالشعب الفلسطيني المظلوم وقف موقفا رائعا بغض النظر عن تفصيلات صغيرة صدرت من هنا وهناك عن منظمات مشوشة الولاء للقضية. وهذا الموقف النزيه والنبيل له دلالاته في رمزيته السياسية وعلى الدولة أن تقرأ جيّدا تلك الإشارات التي ظهرت في الكثير من المنعطفات الحاسمة في معركة مخيّم نهر البارد. والموقف المشرّف المذكور لعب في محطات مختلفة دور الشريك أو المساند المعنوي لقضية جوهرية تمس الأمن اللبناني وتوازن الدولة واستقرار الكيان ووحدته وربما حمايته من «فوضى هدّامة» لو انتشرت لكادت تقوّض أسسه النظامية والدستورية.
هذا الموقف الفلسطيني التاريخي يجب أنْ تستوعب إيجابياته وتوضع في ميزان الحسنات التي لابدّ أن تعطي فكرة مهمة عن تطور نوعي في وعي الفصائل وسكّان المخيمات. وهذا يعني بكلّ بساطة إعادة الدولة النظر في الكثير من لوائح الممنوعات التي اعتمدتها في سياساتها السابقة وأدت إلى تدوير الزوايا وحشر الناس في بقع جغرافية صغيرة أطلقت عليها تسميات مختلفة. هذه السياسة الرسمية ساهمت في توليد أحقاد وإعطاء ذرائع للمتطرفين أو المصطادين لاستغلال المشاعر الدفينة وإخراجها بطرق عنيفة وغير سليمة. الآن هناك فرصة للاستفادة من هذا الوعي السياسي المتقدّم الذي ظهر بوضوح في المواقف الفلسطينية. فهذا الوعي يشير إلى وجود تطوّر جديد في السياسة الفلسطينية تشير من بعيد إلى دخول المخيّمات محطة لبنانية في موضوع الولاء وضرورة توضيح العلاقة الملتبسة مع الدولة وما تعنيه من شروط وحقوق وواجبات.
بعد الوجود الفلسطيني هناك الصورة السياسية التي ظهر فيها الشعب اللبناني في مختلف أطيافه وطوائفه ومذاهبه ومناطقه. الصورة كانت متماسكة إلى حد كبير وربما جاءت في سياق سياسي أظهر أنّ هذا البلد غير قابل لاحتواء مثل هذه الأفكار المتطرفة والتكفيرية سواء جاءت عابرة للقارات أو الحدود. فالرفض السلبي الذي ترافق مع إجماع على استنكار الاعتداء قطع على الأزمة المفتعلة إمكانات التدحرج والانتقال من ضفة إلى ضفة ومن مكان إلى آخر. وهذا النوع من التماسك الداخلي لا سابقة له في شعب عرف عنه التشعب في الأهواء والولاءات. فالرهان على الخرق الأمني فشل ؛لأنه كان من الصعب تحقيق الاختراق من دون حصول ردود فعل متشنجة مذهبيا أو طائفيا أو مناطقيا. وهذا الأمر لم يحصل إذ توافقت كلّ القوى على الإدانة، وأقصى ما طلبته هو الحذر من فخ أمني أو التحذير من ورطة تجرجر الدولة ومؤسساتها إلى عملية عسكرية غير مدروسة ومحسوبة.
إلى ذلك، يمكن الإشارة إلى الجيش. فهذه المؤسسة دخلت في تجربة مرة لم ترد في مفكرتها سابقا. وشكل الخوف من الانهيار نقطة تجاذب بين قوى سياسية نظرا إلى تلك التركيبة الدقيقة التي تأسست عليها البنية العسكرية اللبنانية. فالمؤسسة في النهاية تشكلت على صورة مجتمع فسيفسائي (كوكتيل) يعتمد نظام الملل والنحل في توظيفاته وإنتاج قياداته، لذلك ظهرت مخاوف مبررة ومشروعة ومبنية على تجارب ميدانية سابقة في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي. فآنذاك كانت القوى اللبنانية تتنازع المواقف السياسية وتنقسم طائفيا ومذهبيا بين فريق يؤيّد الجيش وآخر يرفض استخدام القوة المجردة في التعامل السياسي والإنساني مع المخيّمات الفلسطينية. هذا الأمر لم يحصل في معارك نهر البارد على رغم شدتها وعنفها وقساوتها وطولها الزمني.
هناك الكثير من الدروس المستفادة من «أزمة نهر البارد» وهي تشكّل نماذج مغايرة لتلك الحالات المشابهة التي عرفها لبنان من خلال تجاربه المرة في علاقاته الرسمية أو الشعبية أو نظرته السياسية في تعامله مع الدولة أو سلوكه الإنساني مع المخيّمات الفلسطينية. فالتجربة الميدانية لابدّ أنْ تفرض شروطها وتؤسس لرؤية جديدة في قراءة مستجدات طرأت على مساحات البلد الصغير. فهذا البلد أشبع بالحروب ولم يعد أهله في موقع يسمح لهم بتكرار تجارب جلبت الويلات والكوارث والدمار والخراب على امتداد نصف قرن. التجربة الميدانية مهمة حتى لو كانت ناقصة سياسيا أو مشوشة في صورتها الذهنية. فما حصل ليس بسيطا، ولكن العبرة في النهاية ستعود إلى رؤية الدولة وكيفية تعاملها مع تجربة أنتجت خامات جيّدة يمكن الاستفادة منها وتوظيفها سياسيا وربما البناء عليها لإعادة قراءة الكثير من الأخطاء والسلوكيات والانحرافات سواء على مستوى الداخل اللبناني أو على مستوى تنظيم علاقة مدنية سوية مع شعب مظلوم طرد من أرضه ويريد العودة مهما طال الزمان.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1823 - الأحد 02 سبتمبر 2007م الموافق 19 شعبان 1428هـ