ينظم معهد ستوكهولم العالمي للمياه (SIWI) في شهر أغسطس/آب من كل عام «أسبوع المياه العالمي» في مدينة ستوكهولم (السويد)، لمناقشة القضايا والتحديات التي تواجه العالم في مجال المياه ومتابعة التقدم المحرز في مواجهتها. وعقد أسبوع المياه العالمي لهذا العام (2007) في الفترة من 12 18- أغسطس الماضي تحت شعار «التقدم في مجال المياه والتوقعات: تحقيق الاستدامة في عالم متغير»، وحضر الحدث نحو 2400 مشارك من نحو 140 دولة من دول العالم، متخصصين في المجالات المختلفة للمياه من المسئولين الحكوميين والأكاديميين والمنظمات غير الحكومية ومعاهد التدريب ومنظمات الأمم المتحدة ذات العلاقة بالمياه، يتقدمهم رئيس وزراء السويد. ونوقش خلال هذا الأسبوع الكثير من القضايا والتحديات التي تواجه قطاع المياه حاليا، شملت قضايا التغير المناخي والمياه، والمياه الجوفية المشتركة في منطقة الشرق الأوسط، وإدارة الموارد المائية، والمياه والغذاء والأنظمة الحيوية، والاستثمار في المياه، وتحسين الحاكمية، وتحديات الصرف الصحي، ووسائل قياس التقدم المحرز نحو الأهداف العالمية والوطنية الموضوعة، وخصوصا أهداف الألفية.
بدأت فعاليات الأسبوع بنداء إلى حكومات دول العالم لإدارة مواردها المائية بشكل أفضل، وأنه على رغم من حصول تقدم في هذا المجال، فإن معالجة التحديات الكبيرة التي تواجه قطاع المياه، والمتمثلة في الفقر، وعدم وجود خدمات للصرف الصحي لنسبة كبيرة من سكان العالم، وزيادة الندرة المائية، وتغير المناخ؛ تتطلب جهدا أكبر وإجراءات أفضل من قبل جميع الحكومات والشعوب.
وفي الجلسات التي خصصت لمناقشة قضية التغير المناخي تم تقديم عدة محاضرات من قبل متحدثين من المجلس الحكومي لتغير المناخ (IPCC) تم فيها عرض نتائج آخر الدراسات التي قامت بها هذه الجهة والتي تم نشرها أخيرا في منتصف العام 2007، واستراتيجيات التكيف التي تم إعدادها من قبل الدول المتقدمة والنامية، والخرائط المبينة لقابلية التأثر بهذه الظاهرة، كما تم تقديم نتائج آخر نماذج محاكاة حركة المناخ العالمي (Global Circulation Models) والتأثيرات المتوقعة على إدارة الموارد المائية على مستوى العالم ومناطق العالم المختلفة.
كان المتحدثون من الصراحة بالنسبة للتحديات الضخمة المتوقعة التي ستواجهها دول العالم، ليؤكدوا أن قضايا وتحديات التغير المناخي ليست بقضايا مستقبلية، وإنما هي مشكلات حالية مفروضة على دول العالم فرضا تسببت فيها تصرفات البشر أنفسهم، وأن ممارسات إدارة الموارد المائية الحالية لن تكون كافية لتغيير تأثيرات هذه الظاهرة، ويبقى لدول العالم مجال التكيف معها فقط. لذا، جرى حث دول العالم المتضررة من هذه الظاهرة على إتباع إدارة مرنة للموارد المائية تستوعب وتأخذ في الاعتبار سيناريوهات تغير المناخ وتأثيراتها كأمر أساسي للتعامل والتكيف بنجاح معها.
وعمليا يعني ذلك إجراء دراسات تقييم المخاطر وتحاليل المنفعة - الفائدة لخطط إدارة الموارد المائية لحماية السكان من المخاطر والفرص الجديدة لزيادة كفاءة استخدام المياه والعدالة الاجتماعية، وطالب المشاركون بتغيير المواقف والأولويات ونماذج التنمية المتبعة، ودعوا الحكومات للأخذ بقضايا المياه والتغير المناخي بجدية. وتم حث الدول والمسئولين باتخاذ الإجراءات المطلوبة لزيادة القدرة على التكيف مع ظاهرة المناخ والالتزام بتخفيض الانبعاثات الغازية المؤدية لهذه الظاهرة كإجراءات ضرورية فورية لتقليل التدهور الحالي والمستقبلي.
أما في جلسات المياه الجوفية المشتركة في منطقة الشرق الأوسط، فلقد طرحت قضية عدم وجود أية إدارة مشتركة لأي من المياه الجوفية المشتركة في هذه المنطقة، وبأنه لإحداث توازن بين كميات المياه المتاحة والطلب المتزايد عليها بين الدول المشتركة في هذه المياه، هناك حاجة لزيادة الاهتمام الدولي لتطوير اتفاقات المياه المشتركة في المنطقة. وتطرق المتحدثون إلى قضية عدم توازن القوى بين دول المنطقة والذي يطغي بشكل واضح على موضوعات إدارة المياه الجوفية المشتركة، وتوجه القيادات السياسية في دول المنطقة للحصول على نتائج آنية قصيرة المدى وغير مستدامة بدلا من النظر إلى مستقبل العلاقات ومبادئ التخطيط المستدام للموارد المائية. وبسبب عدم وجود إطار عملي للتشارك في المياه الجوفية بين دول المنطقة وبقاء الدول الضعيفة رهن الأمر الواقع، اقترح المشاركون على هذه الدول إقامة التحالفات مع بعضها لتصبح لديها قوة تفاوضية أكبر في مجال المياه الجوفية المشتركة.
والقضية المهمة الأخرى التي تمت مناقشتها في جلسات المؤتمر كانت بشأن الحاكمية الجيدة (Good Governance)، والتي أصبح الإدراك بدورها الحيوي في إدارة الموارد المائية بين السياسيين ومنظمات المجتمع المدني في نمو متزايد. فلقد برهنت بعض التجارب النادرة أن تغيير السياسات المائية يصبح ممكنا عندما تتغير القيادة السياسية لتكون أكثر توافقا وقبولا في المجتمع لتؤدي إلى تغيير جذري وأكثر كفاءة في التعامل مع المياه (مثل جنوب إفريقيا وتشيلي).
ولكن الواقع يدل على أن التغيير عادة ما يحدث عند حدوث أزمة وطنية وأوضاع اقتصادية تحتم تغيير هذه السياسات، أي أن عملية التغيير تصبح ممكنة عندما يصل جمود وعدم كفاءة السياسات المائية والخدمات إلى أعلى مستوياته. إلا أن السؤال المطروح: هل تنتظر الدول حدوث هذه الأزمات لتغيير وجهة سياساتها المائية؟ أليس هذا بداعٍ كافٍ لجميع نشطاء المجتمع، من أكاديميين ومنظمات مجتمع مدنية، إلى عدم الاكتفاء بانتقاد الوضع وصانعي السياسات، وأخذ المبادرة والعمل من أجل التغيير في المجتمع على كل المستويات السياسية والتنفيذية والعامة ووسائل الإعلام والقطاع الخاص؟
في محور الاستثمار في المياه، نبهت الجلسة إلى أن الاستثمار في تطوير إدارة الموارد المائية وخدمات تزويد المياه والصرف الصحي ينظر إليها عادة - وببساطة - على أنها «تكاليف»، على رغم أن هناك الكثير من المؤشرات التي تبين أن هذه الاستثمارات تؤدي إلى مكاسب اقتصادية كبيرة وتساعد في تخفيف الفقر. كما تبين من التقارير المتاحة أن الجهات التمويلية والمستثمرين أصبحوا مترددين عندما يتعلق الموضوع بالاستثمار في قطاع المياه، وذلك بسبب القلق على ضمان الحصول على الأرباح، والمخاطر العالية مقابل المردود القليل، وعدم الكفاءة والاستقرار، هذا على رغم التزايد المستمر للاعتمادات والمخصصات المتعلقة بقطاع المياه. ولكسر هذه الحلقة من التردد، فإن هناك حاجة لعدم تقديم المشروعات المائية، سواء الكبيرة أو الصغيرة منها، على أنها تسويق اجتماعي والتركيز على الجوانب التمويلية لجلب المستثمرين.
وفي إحدى الجلسات التي عقدت في مجال الاستثمار في المياه والتي تم دعمها من قبل شركة «نستلة» العالمية، إحدى أكبر شركات القطاع الخاص في مجال خدمات المياه وإنتاج الغذاء، طرح المتحدث من هذه الشركة موضوع القيمة الاقتصادية للمياه، وبأنه إذا كان الماء ليس له سعر، فإنه يصبح لدى المستهلك بلا قيمة، وضرب المثل على أن المياه المستخدمة في القطاع الزراعي، الذي يلاقي دعما كبيرا ويعتبر مجانا في الكثير من الدول، هي التي تحصل فيها أعلى نسب الهدر، وبأن الاستخدام الضخم للمياه في هذا القطاع في العالم (نحو 90 في المئة) يمكن أن يكون أكثر استدامة إذا ما تم تطبيق الأدوات والمحفزات الاقتصادية على المزارعين. كما استعرض المتحدث تقريرا شاملا عن أنشطة الشركة في مجال إدارة الموارد المائية والمبادرات التي قامت بها تم نشره حديثا.
أثار دعم شركة «نستلة» للأسبوع العالمي للمياه وإعطائها إدارة جلسة خاصة أثناء الحدث حفيظة المنظمات غير الحكومية المشاركة في الأسبوع، خصوصا تلك العاملة في مجال العدالة الاجتماعية، والتي أبدت معارضتها لهذا النوع من التحالف مع شركات القطاع الخاص. ولقد أثير الجدل في إشراك القطاع الخاص في قطاع المياه واعتبار المياه سلعة اقتصادية وقضية العدالة الاجتماعية، إلا أن واقع الأمر يدل على أنه لتحقيق أهداف الألفية في مجال مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي هناك حاجة لاستثمارات رأسمالية ضخمة لا يمكن الحصول عليها في غالبية الدول إلا بتمويل من القطاع الخاص.
وفي قضية المياه والغذاء والأنظمة الحيوية، طرحت مشكلة عدم استدامة عملية إنتاج الغذاء المتبعة حاليا بسبب استنزافها لكميات عالية من المياه الجوفية ومياه الأنهار، الأمر الذي يهدد الأنظمة الحيوية التي تعتمد على هذه المياه والتنوع الحيوي. ولذلك، وتلبية للطلب المتنامي على الغذاء، يصبح من المهم إيجاد طرق لإنتاج كميات أكبر من الغذاء باستخدام كميات أقل من المياه وضمان عدم تعريض التنوع الحيوي للخطر.
وأثير أثناء الجلسات الخاصة بهذا الموضوع أن إنتاج الغذاء بحد ذاته لم يعد المشكلة الرئيسة التي يواجهها العالم، وإنما أصبحت المشكلة في تأثيراته السلبية المتزايدة التي تتراوح ما بين زيادة كميات النتروجين والكربون إلى تناقص وفقدان وظائف الأنظمة الحيوية التي تتناقص فيها المياه. ولقد خلص المنتدون إلى أن المطلوب هو خفض دراماتيكي في كميات المياه الضائعة أثناء عملية الإنتاج وتغيير سلوك المستهلكين كمفاتيح لحل مشكلة الأمن المائي. كما اقترح ضرورة إضافة هدف جديد لأهداف الألفية العالمية يتضمن تقليل الفواقد في المياه الزراعية بمقدار النصف.
وأخيرا، احتلت قضية مراقبة وقياس التقدم المحرز نحو الأهداف الموضوعة، وخصوصا أهداف الألفية، واستخدام المؤشرات في ذلك لمساعدة متخذي القرار وإيصال الرسائل المطلوبة للسياسيين. وركزت هذه الجلسة على الأسئلة المتعلقة في كيفية ترجمة المعلومات المائية العلمية المتخصصة والدقيقة بلغة تساعد عملية الالتزام السياسي، وتم تأكيد حاجة المجتمع العلمي إلى تطوير قدراته على مخاطبة السياسيين ووضع توصياته في صيغة ولغة يفهمها هؤلاء.
يتبين من هذا الاستعراض حجم التحديات المائية التي بدأت تستشعرها الكثير من دول العالم، سواء الغنية بالمياه أو المفتقرة إليها، بل أن الدول التي لديها وفرة مائية تبدو وكأنها أكثر قلقا من الوضع المائي وباتت هي التي تأخذ زمام المبادرة وطرح الحلول. وقد لا يكون تضخيما للواقع إذا ما قيل أن دول مجلس التعاون - التي تقع في أكثر مناطق العالم جفافا - قد تكون هي الأكثر تضررا من استمرار انخفاض كفاءة قطاع المياه وتدهور مواردها المائية سواء بسبب الممارسات الحالية، مثل الاستخدامات الزراعية المتنامية للمياه وتأثيرات ذلك على الأنظمة الحيوية الهشة، أو أسلوب الحاكمية في إدارة الموارد المائية، أو بسبب العوامل الخارجية مثل التغير المناخي وتأثيراته على هذه الدول.
وحري بهذه الدول أخذ المبادرة بالتصدي لهذه التحديات وأخذ قضايا المياه بجدية، وتنظيم الملتقيات التي تجمع المتخصصين من جميع القطاعات الحكومية والأكاديمية والمجتمع المدني لمناقشتها وطرح الحلول لمواجهتها، وإتباع مستوى عال من التخطيط وإدارة الموارد المائية بحيث يستوعب المشكلات الحالية والمستقبلية وعدم الانتظار لحين الاصطدام بالحائط والتعرض للأزمات.
في أثناء انعقاد الأسبوع العالمي للمياه أطلقت مقولة عميقة من قبل أحد المتحدثين قد تكون مناسبة هنا، وهي أن «الفشل في التخطيط هو تخطيطٌ للفشل».
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1822 - السبت 01 سبتمبر 2007م الموافق 18 شعبان 1428هـ