اتصلت بابن البلد الأصيل العميد المتقاعد رمضان، وطلبت منه استئجار سيارة للتنقل في مصر. وقال لي: حمدا لله على سلامتك، ونورت مصر، وطلب أن يأخذني من المطار. فقلت له: أنا الآن قرب عمارات العبور، وجاء سريعا. أفضل شيء في مصر هو أنها تؤرخ إنجازاتها في كل مكان. إنها عادة حميدة لتشكيل رمزية لكل حدث أو أمر مهم، خصوصا إن كان ذلك يتعلق بالقيم الخيّرة وما يتحلى به أبناء مصر من سمات حسنة في البطولة والشجاعة والفداء (الجدعنه)، كما أن تلك العادة الحسنة ترسخ في أذهان الأجيال دور الإنسان المصري عبر التاريخ، وتربط الأجيال مع تاريخ البلد.
العميد رمضان هو نموذج لابن البلد الجدع جدا، فهو أخلاقي للغاية، ولا يعني له المال شيئا، على رغم من أن المال يعني كل شيء للبعض ولأكبر «شنب» في البلد! فهو لم يطلب مقدما ولا تأمينا ولا صورة من الجواز أو بطاقة الهوية. وهذا قلما يحدث في أي بلد، حتى البحرين!
في العهد الحاضر، تغيرت الكثير من السمات الأخلاقية العالية التي يتحلى بها الإنسان المصري، وفي كل الأزمات والمشكلات نجد أن أساسها أو عاملها المؤثر هو الفقر والحاجة. صحيح أن هناك من هم بحاجة إلى المال ويعيشون أدنى مستويات الحياة ومع ذلك هم متمسكون بالقيم الأخلاقية الراقية؛ إلا أنهم قلة وسط هذه الفوضى البشرية ذات الأرقام المليونية، التي جاوزت السبعين مليون، وهم المقيدون في السجلات فقط!
هذه الفوضى البشرية في الإنجاب تتطلب جهودا كبيرة للإعاشة وتنظيم الحياة؛ إلا أن الصحيح أيضا أن الفساد الضارب بأطنابه جميع المؤسسات والمنظمات والوزارات وسوء توزيع الثروة وحصرها على القلة المرضي عنهم فقط، هو أيضا جانب سواده حالك وليله طويل على هذا الشعب -المصري.
بعد أن استأجرت «العربية» من العميد رمضان، كان طريقي لملاقاة معشوقتي «الإسكندرية». تلك العشيقة التي لا تمل ولا تكل ملاقاتي والترحاب بي متى حضرت وأي ثوب لبست أو بأي وجه جئت إليها، حزينا عابسا أم فرحا منشكحا، هي التي أعشق، وهي التي أكون هائما في هواها مولعا جدا في بحرها وجميع أركانها، من: الانفوشي فالرمل فسيدي جابر ورشدي وستانلي وجليم وسان ستيفانو، فسيدي بشر وميامي والعصافرة والمندرة، والمنتزه والمعمورة إلى أبوقير. هذا الوجه البحري للاسكندرية، لو قطعه المرء ماشيا على قدميه لن يصيبه التعب ولا النصب ولن يعكر خاطره لغوب.
مازالت الإسكندرية بحاجة إلى اهتمام من قبل القائمين على أمر السياحة، ومازال أمامهم الكثير لتقديم الإسكندرية كوجهة للعالم، كما كانت يوما ما وجهة الاسكندر الأكبر المقدوني. معاناة الإسكندرية لا تختلف كثيرا عن معاناة الكثير من مناطقنا العربية الجميلة، والتي تشترك فيما بينها في معضلة الإهمال الرسمي والذي بات جزءا من الروتين العام في ظل هذه الأنظمة المهترئة.
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 1821 - الجمعة 31 أغسطس 2007م الموافق 17 شعبان 1428هـ