كنا مجموعة صغيرة ممن فاتتهم مشاهدة الفيلم البحريني «حكاية بحرينية»، على موعد مساء الأربعاء 22 أغسطس/ آب الجاري في مقر أسرة الأدباء والكتاب البحرينية لمشاهدة الحكاية.
وكنت قد سمعت امتداحا للفيلم وقرأت مقالات نقدية منوعة عنه، إلا أن تقريرا صدر عن «رويترز» إبّان عرض الفيلم ضمن الدورة التاسعة لمهرجان «أوشيان سيني فان» للسينما الآسيوية والعربية في نيودلهي شدني وأثار اهتمامي. عنوان تقرير «رويترز» هو: «حكاية بحرينية... فيلم عن نساء أكثر تحررا ورجال قساة مهزومين»، وزبدة قوله: «تبدو نساء من البلد الصغير الذي يشبه نقطة في الخليج أكثر جسارة في اختيار مصائرهن على حين كان الرجال قساة أو مهزومين... كان الرجال سلبيين متخاذلين أما النساء فيتحايلن على الحياة أو سرقة البهجة». كانت الرؤية التي ساقها تقرير «رويترز» على رأس دوافع عدة جعلتني أتحين فرصة إعادة عرض الفيلم فأُهْرِعَ لمشاهدته. وفعلا، وجدته «فيلما عن نساء أكثر تحررا ورجال قساة مهزومين». وجدت سبعة نماذج نسائية ايجابية فاعلة جسدت شخصيات نسائية حداثية مثقفة وطنية متمردة مقدامة وذات سمو ورقي إنساني.
أحسب أن مؤلف الحكاية وواضع سيناريو الفيلم، الروائي البحريني فريد رمضان أراد أن يقول ذلك ويظهره ويركز عليه. وجاء المخرج بسام الذوادي ليبرع في بث حياة دافقة في السيناريو بكل الأدوار النسائية عبر مسار الحوادث واتخاذ المواقف واختيار المصائر، بل في كل لفتة وكلمة وإيماءة نسائية عرضها الفيلم.
كان المؤلف والمخرج موفقَين في إظهار الثمار التي طرحها التطور والنهوض المتصاعد في وعي المرأة البحرينية ودورها على غير صعيد منذ النصف الثاني من عقد الستينات الماضي فما فوق، وانعكاس ذلك على المرأة في كل الشرائح الاجتماعية بما فيها الفقيرة منها. كانت البحرين قد خاضت لتوها انتفاضة شاملة العام 1965. وكان للمرأة والشابة البحرينية من شتى الطبقات الاجتماعية دور نضالي مشهود في فعاليات الانتفاضة. وقد أسست مشاركتها لتنامي الوعي وتفتح الأفق المعرفي في محيط المرأة البحرينية خلال السنوات اللاحقة.
وقد تمخضت الانتفاضة عن نتائجَ كبيرة تمثَل جانب منها في حزمة تطويرات أجريت على أوضاع المجتمع البحريني. لقد بدأ افتتاح مدارس ثانوية للبنات في مدن أخرى غير العاصمة، وافتتح قسم المعلمين والمعلمات تلاه معهد المعلمين والمعلمات، وافتتحت مدرسة للتمريض وأعيدت بعثات المتفوقات للدراسة بالخارج بعد أن أُوقفت عددا من السنوات.
وفي الفترة ذاتها زاد إقبال الطبقات الوسطى على إرسال بناتهم لإكمال تعليمهن بالخارج وأخذت تتزايد أعداد الخريجات الجامعيات اللواتي عُدن بشهاداتهن وانخرطن في مجالات عمل متنوعة. كما بدأ الإعداد لافتتاح جمعيات نسائية جديدة تضع رفع مستوى وعي المرأة وتعليمها على رأس أولوياتها واستقطبت خطواتُ تأسيسِ الجمعياتِ الشاباتِ من أعلى الشرائح الاجتماعية إلى أدناها. كما صدرت صحف ومجلات بحرينية جديدة. وشهدت المرحلة بداية دخول المرأة البحرينية مجالات عمل جديدة إضافة إلى مجالي التدريس والتمريض، إذ بدأ اقتحام الشابة البحرينية مجالات العمل في الشركات والمصارف والمطار. وانعكس التطور الشامل الذي شهده المجتمع - كما أسلفنا- على تطور مدارك المرأة البحرينية من مختلف الطبقات وسبل حياتها، فأبدت مشاركة ملموسة في حدود اتساع الشأن العام وفاعليته حينها.
يلامس الفيلم الفترة اللاحقة لانتفاضة 1965 ويردد صدى المتغيرات العربية والمحلية التي أعقبتها من خلال حوادث وشخصيات منوعة برزت من بينها واتخذت مواقعَ محورية شخصيات نسائية ايجابية فاعلة. جسّد العنصر النسائي في الفيلم أدوارا تحكي التشكل الجديد للمرأة البحرينية الذي أدخلها بزخم باهر الأجواء التي عاشها المجتمع البحريني أيام الحرب العربية الإسرائيلية العام 1967 وتداعيات الهزيمة العربية ومراراتها الأليمة في محيط حي بحريني قديم بأسره الفقيرة وأناسه الطيبين ونسائه الجسورات.
هكذا كانت «منيرة» الشابة ذات الأفق الوطني والإنساني بشخصيتها المتفتحة المثقفة المقدامة على الارتباط بشاب من طائفة أخرى، وكذلك أختها التي تصغرها وصديقتها شقيقة الشاب الذي أحبته كلتاهما تماثلان منيرة في التفتح والإقدام. حتى أختها الكبرى فاطمة الشابة - التي عاشت مأساة تواجهها الكثيرات من أمثالها - كانت مقدامة جسورة وصاحبة قرار. ولو كان إنهاؤها لحياتها حرقا قد تم في الخفاء لقلنا كان هروبا من واقع مرير ومن عذابات بلا نهاية، ولكنها وقفت جسورة ثابتة تصب الغاز على جسمها قُبالة زوج تكور ذليلا أمام شموخها مأخوذا بفداحة ما اختارته من مصير، ضعيفا عاجزا عن الإتيان بأي رد فعل.
المتغيرات المجتمعية لم تترك آثارها على شابات الحي فحسب بل امتد تأثيرها أيضا إلى نسائه وكلهن أميات من ذوات الوعي المحدود. تفاعلت هؤلاء النسوة مع المتغيرات وتنامى لديهن بشكل تلقائي الحس الوطني وروح التكافل والتضامن. أولئك هن النسوة اللواتي زرع زخم الحوادث والنهوض الشعبي في قلوبهن كره المستعمر ورفض الظلم ومقاومته، وقد كان دور الزوجة لطيفة النموذج الأبرز لهذه الشريحة. عانت لطيفة من الفقر وظلم الزوج واضطهاده، ولكنها كانت تتسامى على معاناتها باقتناص لحظات الفرح في لقاءاتها مع الصديقات من نساء الحي، وفي الحرص على الاستماع لأغانيها العاطفية والوطنية الأثيرة التي تطلبها من الإذاعة عبر رسائلَ تملي مضمونها على بناتها المتعلمات. كما اتخذت لطيفة من عبدالناصر مثالا للزعيم المنقذ للأمة ونموذجا للرجولة الحقة التي تفتقدها في زوجها وزوج ابنته فاطمة.
ومثلها كانت شريفة الظريفة صديقة نساء الحي وزارعة الفرح في قلوبهن بحضورها الدائم وبما تعده من حفلات بهيجة وتتخذه من مواقفَ داعمة للوطنيين ومساندة لحق طفل في البهجة والفرح وحق شابة في الحب واختيار الحياة. وفي المسار ذاته كانت شخصية الأم الحنون المحبة الناصحة لابنها المهزوم، تقطر كلماتها حكمة وخبرة بالحياة على رغم أميتها وقلة تعليمها. هؤلاء النسوة الجسورات هن نتاج فترات متتابعة من صعود وتنامي الوعي والتطور المجتمعي الذي شهدته البحرين منذ الخمسينات، تربين في هذه الأجواء، تشربنها وتطبعن بها.
لا أملك أدوات النقد الفني ولست من متخصصيه، ولكنني وجدت صدقا وتلقائية تصل إلى أعماق الروح في تمثيل الأدوار النسائية. وأظن أن مريم زيمان مثلت أروع أدوارها السينمائية والتلفزيونية على الإطلاق. كان أداؤها بسيطا هادئا تلقائيا ومقنعا يخلو من التوتر والمأسوية التي ترافق أداءها أحيانا في بعض المسلسلات التلفزيونية. وكذلك كانت ماجدة سلطان تدخل القلب من دون استئذان وكانت لطيفة مجرن أما حقيقية كعادتها، كما كان مقنعا لأبعد الحدود أداء الشابتين شيماء جناحي وشذى سبت. أحسب أن ما أضفى على الأداء واقعيته وإقناعه أسلوب الإخراج الملح على التلقائية من جهة، وعلى تحرير وجوه بطلات الفيلم من طبقات «الماكياج» التي نراهن يصحون من النوم بها في المسلسلات التلفزيونية. كانت الوجوه النسائية طبيعية نظيفة بمنتهى الجمال البحريني الأصيل من دون رتوش، وكذلك كانت هيئتهن طبيعية ملائمة الدور خالية من الزينة المبتذلة.
كنت أتمنى لو شملت الطفولة التي منحها السيناريو والإخراج مساحة معتبرة في الفيلم دور طفلة أنثى، لكُنا لمسنا كيف تحدد ظروف وعلاقات وأساليب الأسرة والمجتمع محتوى تربية الأنثى وإرهاصات تشكل شخصيتها اللاحقة شابة كانت أو امرأة. كما كنت أتمنى لو منح الإخراج الوقت الكافي لهذه النماذج النسائية لتتبلور وتكشف أبعاد شخصياتها الغنية الخلاقة. شعرت بأن هناك نقصا ما في عرض كل شخصية نسائية وتمنيت لو طال الوقت قليلا لنقف على تجربة كل منها بشكل أشمل.
هناك - طبعا - الكثير مما يقال عن الفيلم وشخصياته وحوادثه وقيمته الفنية عموما، ولكني كنت مَلهية بتلك النساء الأكثر تحررا وجسارة في اختيار مصائرهن، بحسب تقرير «رويترز».
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1821 - الجمعة 31 أغسطس 2007م الموافق 17 شعبان 1428هـ