لا يُعرف متى توفي الكِنْدي. فهناك خلافات بين المؤرخين على تحديد السنة. البعض يرجح أنه توفي في العام 246هـ (860م). وهناك من يقول في نهاية 252هـ (866م). والبعض يجعل وفاته في سنة 260هـ (873م). الاختلاف على تحديد عام رحيل الكِنْدي مسألة مهمة من الناحية البحثية ومدى اتصال حلقات السلسلة «الفلسفية» وتأثرها بالفضاءات السياسية التي عصفت بالخلافة آنذاك بعد اغتيال المتوكل.
الجانب السياسي مهم لقراءة اتجاهات الفلسفة الإسلامية وتموجها المعرفي وانتقالها من ضفة إلى أخرى. والكِنْدي معني بالتحولات السياسية؛ لأنه دفع ثمنها على مستويين. فحين كان في موقع المسئول المباشر عن دائرة الترجمة وكلفه المعتصم بتربيه ابنه أحمد تعرض لحملة داخلية في القصر من جهات حاسدة. وحين جاء المتوكل إلى موقع الخلافة قاد أبناء موسى بن شاكر مؤامرة ضده أدت إلى طرده من القصر وتجريده من المسئوليات.
الفارق الزمني بين المؤرخين على تعيين سنة وفاته ليس بسيطا. فهناك نحو 14 سنة بين 246هـ و260 هـ وهي كافية لتوضيح الكثير من الملابسات السياسية التي أثرت مباشرة على منظومته الفلسفية ومنعته من استكمال مشروعه إلى نهايته نظرا إلى الظروف التي عاكسته وانقلبت عليه. فإذا توفي الكِنْدي في العام 246هـ فمعنى ذلك أنه رحل قبل حادث اغتيال المتوكل بسنة واحدة. وإذا توفي في العام 252هـ يكون الكِنْدي شهد سلسلة اغتيالات القصر بدءا من المتوكل والمنتصر والمستعين ورافق عن قرب تلك التحولات العنيفة في الحياة السياسية وظهور دور الأتراك في تقرير مصير الخلافة العباسية. وإذا تأخرت وفاته إلى العام 260هـ كما يذهب صاعد الأندلسي في «طبقات الأمم» يكون الكِنْدي شهد تحولات خطيرة في عهده منها قيام الدولة الطولونية في مصر (254هـ) وتأسيس الدولة الصفارية في خراسان (255هـ) ورحيل الجاحظ (كبير المعتزلة المخضرمين) في 255هـ، وهو العام الذي شهد اعتقال الأتراك الخليفة المعتز، ثم اعتقالهم واغتيالهم الخليفة المهتدي (256هـ) ووفاة الإمام البخاري (256هـ) في سمرقند.
الاختلاف على توقيت رحيل الكِنْدي لا يقتصر تأثيره على رصد الفضاءات السياسية في عصره وانعكاسها السلبي على تعثر مشروعه الفلسفي وإنما تعطل إمكانات الربط المعرفي في حلقات السلسلة التي جاءت من بعده. فالكِنْدي كما صنفه بعض الباحثين واضع «حجر الأساس» أو المتقدم بين فلاسفة العرب. وخلال حياته وبعد رحيله تأثر به كل من اعتنى بدراسة كتب اليونانيين. فصاعد الأندلسي يقول إن السرخسي من تلامذته. والسرخسي توفي في العام 286هـ (899م) أي في مرحلة كان الرازي (الفيلسوف) يشق طريقه الخاص ومتأثرا في الآن بكتابات الكِنْدي. وهذا الربط المعرفي مهم؛ لأنه يحدد تطور الأنساق الفلسفية واتصال حلقاتها وصولا إلى الفارابي وابن سينا.
عمليا هناك توافق على ترجيح سنة 252هـ. وهي فترة تتوسط زمنيا بين خطوة طرده من قصر الخلافة وبدء الانقلاب السياسي في توجهات الدولة العباسية وعلاقاتها الداخلية وتحالفاتها الإقليمية. وفي كل الحالات يمكن القول إن التقلبات السياسية العنيفة عطلت على الكِنْدي متابعة مشروعه الفلسفي الذي وعد بتطويره بعد أن تمكن من تأسيس مفردات ومصطلحات وتعريفات أعطته مادة معرفية للتعامل معها وتطويعها في سياق يتناسب مع منهجية التوفيق بين المتكلمة والفلسفة وبين الشريعة والحكمة.
منهج التوسط بين السياسة والثقافة، والسلطة والمعتزلة، والكلام والفلسفة وبين الفلسفة والدين، سيترك أثره المعرفي البالغ في تمييز الفلسفة الإسلامية وإعلامها من المشرق إلى المغرب. فهذا المنهج الذي بدأ الكِنْدي تأسيسه لم ينجح في استكمال معالمه النهائية ولكنه على نواقصه وعثراته ترك تأثيراته الأولية (البدائية) على الأجيال وحلقات السلسلة الفلسفية التي جاءت بعده. فالرازي تأثر به جزئيا، كذلك الفارابي وابن سينا. حتى فلاسفة الأندلس (ابن رشد مثلا) اتخذوا منهج التوفيق أو التوسط نفسه حين قاموا بالمحاورات بين الإسلام وعلوم اليونان.
هذه النزعة التوفيقية تولدت منهجيا لأسباب مختلفة تعود إلى قوة الإسلام وتأثيره المعرفي/ الثقافي على كل العاملين في حقول العلمين النظري والعملي. وهذه القوة شكلت تقليديا نواة ممانعة للاختراق أو التجاوز وساهمت في تكوين حواجزَ مزجت بين السياسة والعلاقة مع السلطة وبين الخوف على وحدة الإسلام وهويته الحضارية.
نزعة التوسط أو التوفيق لم يخترعها الكِنْدي وهي لم تبدأ معه. ولكنه نجح في تطويعها وتطويرها في فترة استعداده لتعدين مشروعه الفلسفي وإطلاقه في صيغته النهائية. ولكن الظروف السياسية التي ساهمت في تشكيل القناعات الفلسفية للكِنْدي هي أيضا لعبت دورها في تعطيل مشروعه. فالكِنْدي آنذاك كان محسوبا على المعتزلة في وقت حاول جهده لتمييز نفسه عن مدارسهم وفرقهم. فهو كان يخطط لتأسيس نهجه الخاص والمستقل عن شيوخ المعتزلة.
بدأت خطوة «فيلسوف العرب الأول» الأولى بالاشتغال على الفلسفة فنجح من خلال إشرافه وتنقيحه اللغوي وتصحيحه الترجمات في تأسيس مفردات ومصطلحات تختلف عن تلك التيارات (المعتزلة) التي فقدت وظيفتها ودخلت فترة جمود فكري تمثلت في التَكرار والانشقاقات.
إلا أن هذا الهامش النظري الذي أسسه الكِنْدي في خطوته الأولى لم يشفع له في تمييز استقلاله الفكري؛ بسبب تداخل وظائف المتكلمة (فرق الكلام) الذابلة فكريا مع منظومات فلاسفة اليونان المترجمة على مراحل منذ عهد هارون الرشيد. ونتيجة هذا التقارب الميداني وتواصل علم الكلام نظريا مع الفلسفة اضطربت علاقات الكِنْدي مع أصحابه في القصر حين كلفه المعتصم بالإشراف على تربية ابنه ثم عادت وانهارت مع المتوكل حين انقلب الخليفة على المعتزلة فاضطر إلى مغادرة دار الخلافة على سوية واحدة مع المتكلمة.
حين غادر الكِنْدي دار الخلافة كان توصل إلى مراكمة معرفة أولية جعلته يبدأ الانتقال إلى خطوته الثانية في مشروعه الفلسفي. فآنذاك كانت العلوم (الطب، الفلك، الرياضيات) شقت طريقها المستقل جنبا الى جنب مع حركة الترجمة والنقل. وترافق ازدهار العلوم التي أبدعها المسلمون مع نمو مدارس الفقه على أنواعها في وقت بات دور المعتزلة يتراجع ولم تعد مدارسها تمتلك تلك التأثيرات إلا في أطر ضيقة ومحدودة.
هذا النمو المستقل الذي حققته حقول المعرفة على مستوى تطور علوم الرياضيات والفلك والطب والهندسة والجبر إلى جانب نمو وتطور علوم القرآن شجع الكثير من أمثال الكِنْدي على التفكير في وضع أسس مستقلة للفلسفة الإسلامية تجمع بين الدين والمعارف العلمية واستخدام العلوم (الرياضيات مثلا) أدوات تحليل للقياس والمقارنة والتفكيك.
يشكل عنوان كتاب الكِنْدي عن «الفلسفة الأولى» إشارة واضحة إلى عزم الفيلسوف الأول الذهاب نحو اتجاه الاستقلال المعرفي. فالكلام عن «الفلسفة الأولى» يشكل خطوة ذهنية تعكس استعداده البدء في تشييد أسس مختلفة لفلسفة «ثانية». وهذه الخطوة الثالثة التي لم تظهر أو تكتمل يمكن تلمّس إشاراتها الأولى من خلال متابعة اجتهاد الكِنْدي في تركيز التعريفات وضبط المصطلحات لتشكيل قواعد انطلاق لإعادة هيكلة فلسفة جديدة (ثانية) تعتمد منهج المنطق الرياضي وعلم العدد (الأرقام) لتنظيم تراتبية هرمية تنسجم فلسفيا مع روح القرآن وعلوم الشريعة.
ظروف الكِنْدي الحياتية والسياسية لم تسمح له بتحقيق الخطوة الثالثة في تطور منهجه الفلسفي. فهو أنجز الأولى (ضبط المصطلحات والتعريفات) وأنجز الثانية حين أوضح أسس «الفلسفة الأولى» ولم يسعفه الحظ في إنجاز الخطوة الثالثة وهي تأكيد قواعدَ مستقلة للفلسفة الإسلامية (الفلسفة الثانية). فهو اكتفى بوضع رؤوس أقلام للفلسفة العربية/ الإسلامية الجديدة. وكل ما وصل من أعمال الكِنْدي الكثيرة 241 بحثا و60 رسالة تناولت مختلف علوم عصره ومن بينها رسالة في «الفلسفة الأولى». ولكن لا يوجد بينها تلك التي يرجح أنه لم يكتبها وهي «الفلسفة الثانية» أو فلسفة ما بعد الإغريق وكتب اليونان. فالكِنْدي لم يحالفه الحظ في تشكيل خطوة انتقالية بين فلسفة قديمة منقولة عن اليونان وفلسفة حديثة مصنوعة عربيا.
شكّلت هذه «الفجوة» المعرفية خطوة ناقصة في مشروع الكِنْدي الفلسفي وفتحت باب التأويلات لتصنيفه بين فلسفة أفلاطون أو فلسفة أرسطو. فصاعد الأندلسي مثلا يضع الكِنْدي في خانة فلسفة أفلاطون، على حين يرى عبدالرحمن بدوي أنه أقرب إلى أرسطو وبعيد عن أفلاطون ومطلع على أفلوطين وفلسفته الإشراقية.
عدم اكتمال مخطط الكِنْدي الفلسفي أدى إلى ضياع مجهوده النظري وبحوثه التي اكتفت بشرح الفلسفة والمنطق والموسيقى والهندسة والفلك والطب والجدل وعلم النفس والسياسة ولكنها لم تتوصل إلى تقديم منظومة متكاملة تؤشر إلى بدء الفلسفة الإسلامية استقلالها المعرفي عن الفلسفة اليونانية.
وأدت هذه الفجوة إلى تأخير استقلال الفلسفة الإسلامية إلى فترة لاحقة أسسها الإمام الغزالي حين ساجل الفارابي وابن سينا على قاعدة نقضه المنظومات والأفكار الإغريقية.
هذا النقص لا يقلل من شأن الكِنْدي ودوره المبدئي في إعادة إنتاج فلسفة تحت سقف الشريعة الإسلامية؛ ما ترك لاحقا تأثيره المعرفي على مجمل حلقات السلسلة. فكل محاولات الجمع أو الربط أو رفض التعارض بين الشريعة والحكمة التي حاولها كل فلاسفة الإسلام لاحقا جاءت في سياق اجتهاد الكِنْدي الأولي حين وضع أحكام الشريعة على رأس جدول منظومته الفلسفية مستخدما الرياضيات وعلم العدد (الواحد وما بعده) قاعدة لقراءة الموجودات والمحسوسات الطبيعية وصولا إلى ما بعد الطبيعة. فالكِنْدي كما يقول ماجد فخري في «دراسات في الفكر العربي» بقي «مخلصا للعقيدة الإسلامية كما أوّلها المعتزلة خاصة إخلاصا تاما، حتى لتبدو عنايته بالأفلاطونية المحدثة وبالمشائية نظرية وحسب» (ص 63).
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1820 - الخميس 30 أغسطس 2007م الموافق 16 شعبان 1428هـ