العدد 2268 - الخميس 20 نوفمبر 2008م الموافق 21 ذي القعدة 1429هـ

فلسفة الكيان ومنطلقاته الايديولوجية

لبنان والصراع على هويته (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اعتمدت الفلسفة اللبنانية (الايديولوجية) مجموعة منطلقات جغرافية تاريخية ثقافية اجتماعية لتبرير خصوصية الكيان وفرادته الحضارية (الثنائية) في المنطقة العربية - الإسلامية. وشكلت هذه المنطلقات مدرسة سياسية قامت تقليديا على وظيفة الدفاع عن الهوية المختلفة (المتفوقة) عن جيرانها ومحيطها. وأدت سياسة الدفاع إلى توليد عناصر تكوينية معززة بالأدلة الجغرافية والثوابت التاريخية للإشارة إلى أبدية الكيان وسرمدية الهوية.

الجغرافيا - الطبيعة

أهم تلك الثوابت استخدام الجغرافيا (الطبيعة السياسية) منطلقا للتمايز عن الجوار. فلبنان كما ذكر فيليب حتي في كتابه «تاريخ لبنان المطول» هو «جبل بكل ما في الكلمة من معنى. والجبل قد تمتع خلال أجيال بنعمة الاستقلال الجزئي والكامل». ولبنان الحقيقي برأي حتي هو «سلسلة الجبال الغربية». فهذه الجبال المنيعة والكثيفة الغابات عزلت سكان الساحل عن الداخل العربي وفصلته عن الشعوب المجاورة ما أعطى خصوصية تاريخية إلى أن بدأ الحكم البيزنطي في نهاية القرن الميلادي الرابع. ويذهب المؤرخ جواد بولس في الاتجاه نفسه حين يؤكد في كتابه «تاريخ لبنان» أن الكيان «أمة جغرافية» أو «شخصية جغرافية» تعيش في داخلها مجموعات أهلية شكلت مع الزمن هوية إنسانية (شعب - أمة). وبرأيه أن لبنان يتجاوز في تكوينه التاريخي كل مسائل الجنس واللغة والدين لأنه أساسا شخصية جغرافية جماعية حفظت له الجبال (المرتفعات) حريته واستقلاله. وهذا التكوين «السياسي القومي» نجم عن الجغرافيا ما أعطاه خصوصية تاريخية تألفت من مزيج بحري (المتوسط) وقاري (صحراوي) دمج بين الغرب والشرق. والدمج بين الاتجاهين أعطى لبنان «فرادة» في ربط «الوحدة في التنوع».

انطلاقا من قاعدة الجغرافيا تبدأ «الفلسفة اللبنانية» بنسج خيوطها الايديولوجية لتشكل في النهاية لوحة فسيفسائية (كوكتيل) لتأكيد خصوصية الشخصية التي تأسست على «جو نفسي يتفق مع جو جغرافي». والجو (المناخ) ترك تأثيراته على الأنشطة الإنتاجية (الاقتصادية) والثقافية (الفكرية) والسلوك الديني (الاجتماعي). وكل هذه الفروع تأسست على قاعدة الجغرافيا في اعتبار أن الطبيعة تشكل زمنيا مفتاح التاريخ ومنها تتوزع مختلف العناصر التي ساهمت لاحقا في صناعة الكيان السياسي.

الجغرافيا إذا هي العمود الفقري ومنها تأسست ضلوع الدولة لاحقا. فهي احتضنت المجموعات البشرية التي وجدت في الجبال اللبنانية (السلسلة الغربية) ملاذها الآمن هربا من الاضطهاد أو الملاحقة أو الخوف من الغالبية. فالطبيعة (مرتفعات، غابات) كانت الوعاء (الملجأ) لكل الأقليات الخائفة والهاربة من طغيان المحيط (الأكثري) ما ساهم في تعزيز الموقع والدور والتميز عن الآخر في «التعدد» و»الشراكة» أو «الفرادة» في طرفيها الاجتماعي والثقافي.

إلا أن الاختلاف بين حتي وبولس على مسألة الفهم الفلسفي لمنطلق الجغرافيا شكل أزمة ايديولوجية في التعامل مع هذا المفتاح المحوري في تحديد صفات الشخصية اللبنانية. فالجغرافيا عند المؤرخ حتي هي «الطبيعة السياسية» وبالتالي ليست ثابتة (جامدة ونهائية) وإنما متحركة ومتفاعلة. بينما الجغرافيا عند المؤرخ بولس أشبه بالوعاء (بوتقة) فهي البيئة الطبيعية المرسومة سلفا منذ الأزل. ولاشك في أن وجهة نظر حتي أقرب نظريا إلى التاريخ بينما رأي بولس يميل إلى الايديولويجا في اعتبار أن مختلف الدراسات والبحوث تجمع على أن اسم «جبل لبنان» ليس له دلالة سياسية إلا بعد القرنين السابع عشر والثامن عشر.

المؤرخ اللبناني فؤاد قازان يوضح هذه المفارقة في الجزء الأول من كتابه «تاريخ لبنان في محيطه العربي» حين يؤكد أن «الثغور الفينيقية» كانت محط قوافل التجار العرب وتحولت منذ عهد الدولة الأموية إلى ساحل أخذ الخلفاء على تحصينه اعتمادا على نقل عدد من المسلمين العرب والمستعربين للاستيطان فيه لصد الغزوات البحرية (البيزنطيون).

الموقع - الملجأ

بعد الجغرافيا يأتي منطلق (مفتاح) الموقع (الدور) والملجأ (الخوف). المؤرخ حتي يؤكد أن الفتوحات الأرامية اجتاحت كل المنطقة (المحيط) باستثناء جبل لبنان ما سمح للجاليات الحثية الاحتفاظ باستقلالها حتى حين أخذت باستخدام اللغة الأرامية في تجارتها. ويعود سبب هذا التميز (الفرادة) إلى الجغرافيا لأنها أعطت سكان الجبال هامشا من الاستقلال لتمارس دورها التجاري الوسيط بين حضارات المنطقة البحرية والقارية (البرية) واستمر الموقع يحصن الدور إلى العهد العثماني.

المؤرخ بولس يختلف نسبيا مع حتي في قراءة مسألة الموقع (الدور) الذي يرى فيه سببا في سعادته وشقائه. فالمدن الفينيقية بعد الفتوحات العربية (الإسلامية) انعزلت عن البحر وتقلص نشاطها التجاري فاضطرت إلى الانكفاء إلى المرتفعات وممارسة الزراعة ما أدى إلى تحويل الاقتصاد اللبناني آنذاك إلى «ريفي» تعتاش منه القرى الجبلية. وساهم هذا الجانب السلبي في تشكيل الجانب الإيجابي الذي شجع «لبنان» إلى لعب دور الوسيط الجامع بين البحر والجبل وبين الشرق (العرب) والغرب (أوروبا).

الموقع (الدور) هو الوجه الآخر لمنطلق الملجأ (الخوف). فالوديان والسهول والهضاب والغابات الكثيفة والجبال الشاهقة والكهوف شجعت الأقليات على اللجوء إلى هذه الأمكنة (المواطن) للحماية ما أعطى الكيان صفة سياسية مستقلة شكلت تاريخيا ذاك الملمح الفريد في شخصيته. فالمؤرخ بولس يرى أن الجبل تحول «إلى ملجأ ديني وتحول إلى ملجأ للأقليات الباحثة عن الحرية والأمن على اختلاف أنواعها» وأصبح منذ عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني بوتقة جغرافية يعيش فيها ما يسميه بـ «اتحاد مختلف طوائف البلاد». والمجتمع اللبناني الذي تألف لاحقا هو نتاج اتحاد الأقليات الخائفة والهاربة وحدوده السياسية هو ذاك «الملجأ الطبيعي» في الجبل.

مفهوم الملجأ يوازي الموقع على المستوى الجغرافي - الطبيعي، ومفهوم الخوف يوازي الدور على المستوى الاجتماعي. ومن المفهومين تشكلت جوامع مشتركة لتبرير فلسفة الكيان الذي هو أساسا منطقة جبلية صعبة المنال تعطي الأمان والحرية للفئات الهاربة (الأقليات) خوفاَ من الظلم والاضطهاد. فالخاصية الجغرافية ساعدت برأي المؤرخين اللبنانيين على توليد الخاصية الاجتماعية وساهمت في تشكيل أنظمة سياسية مختلفة عن المحيط (الجوار).

على رغم الاختلاف بين المؤرخين اللبنانيين (حتي، بولس، قازان، بطرس ضو، هنري أبوخاطر) على تحديد طبيعة تلك الأنظمة وسماتها الاقتصادية (الملكيات) والاجتماعية (الاقطاعيات) والدينية (التوريث والأحوال الشخصية) فإن هناك ما يشبه الاتفاق الضمني بينهم على تأكيد الفرادة (الخصوصية) التي امتاز بها لبنان (الجبل) عن غيره (الصحراء).

التفوق - العقد

منطلق التميز (الجغرافي التاريخي) كان لابد منه للتأكيد على اختلاف الشخصية اللبنانية وطبيعتها الاجتماعية وتعاملها السياسي. فهذه الفرادة أسست التفوق (التعدد) ودفعت نحو البحث عن صيغة للتعايش بين المجموعات الأهلية فظهر مفهوم العقد الاجتماعي (الشراكة الدينية).

المؤرخ بولس يرى في «التعدد» أساس التفوق والتمايز لأن الجماعات الدينية أخذت تبحث عن «نقطة ارتكاز ورابطة سياسية لها من أجل انتظامها في تكتلات أو اتحادات اجتماعية وثقافية متماسكة». وهذا التوجه جاء نتاج نوع من «الاتحاد» من أجل الشراكة السياسية بين مختلف العناصر والطوائف والمذاهب في لبنان.

جانب الشراكة الدينية تعامل معه المؤرخ كمال صليبي في كتابه «تاريخ لبنان الحديث» بصفته يشكل منطلقا لمفهوم «العقد الاجتماعي». فهذا العقد جاء ردا على حاجة لبنانية لأن «الشعب اللبناني لم يكن في الماضي أمة واعية لكيانها وموحدة في أهدافها». وبسبب هذه الظروف نشأت بين مجموعات الطوائف ما يسميه صليبي ذاك «الحلف» الذي يجمع الأطياف وهو أقرب ما يكون إلى العقد الاجتماعي. ويرى صليبي أن تاريخ لبنان في المقام الأول منذ القرن الثامن عشر هو «تاريخ تطور العقد الاجتماعي وأثره في نمو البلاد».

كل هذه الخصائص (المنطلقات النظرية) شكلت عموما تلك المفاتيح الفلسفية التي أسست لاحقا ايديولوجية (جغرافية تاريخية) لتبرير فرادة لبنان وموقعه ودوره ووظيفته وتمايز شخصيته الثقافية/ الاجتماعية عن محيطه الطبيعي والحضارات المشرقية (الشرقية والعربية والإسلامية).

المسألة إذاَ تدور حول الهوية والمستجدات التي طرأت عليها بسبب تلك المتغيرات السكانية (الديموغرافية) وما أنتجته من ثقافة مغايرة في تكوينها الاجتماعي (السوسيولوجي) عن تلك الفلسفة (الايديولوجيا) التي ساهم الجيل المؤسس في شرح خصوصيتها وتفسير فرادتها وتميزها. والاختلاف الدائر الآن في الساحات اللبنانية على المناصب والحصص والموقع والدور وترسيم الحدود مع سورية وتعريف المقاومة وعلاقتها بالدولة وصلتها بالاستراتيجية الدفاعية والصراع مع «إسرائيل» كلها إشارات سياسية تدل على مأزق وجودي يزعزع الكيان ويعطل تطوره وتعايشه السلمي وربما يؤدي لاحقا إلى تغيير هويته التي تأسس عليها «لبنان الكبير» في العام 1920.

الدفاع عن الهوية تحوّل سياسيا إلى قضية ايديولوجية وبات موضوع تأكيد الاختلاف يشكل نقطة انطلاق لتبرير «خصوصية الشخصية» اعتمادا على الجغرافيا (الطبيعة الجبلية القاسية) والتاريخ بوصفه سردا لنمط اجتماعي إنتاجي مغاير لتلك الأنظمة المجاورة. فما هو التاريخ الاجتماعي للبنان؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2268 - الخميس 20 نوفمبر 2008م الموافق 21 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً