لا يبدو في الأفق القريب أن مأساة تهميش المبدعين والمتميزين في هذه البلد قد تصل إلى نهاية، على رغم أن هناك الكثير من النماذج التي نالت التقدير وحصلت على مبتغاها من التفريغ للعمل الفني والإبداعي في مختلف المجالات، فإن ذلك ظل مرتبطا بالكثير من المسائل الحساسة، التي تبرز من بينها المحسوبية، تدعمها في ذلك مسألة غياب النصوص القانونية الواضحة في تحديد أحقية الشخص دون آخر للحصول على دعم الجهات المعنية من الدولة بتفريغه كي يمارس فنه ويبرز ما يحتويه قالبه من إبداع.
كنا جالسين سويا في أحد المقاهي، وغمرني فيض الأحاسيس الذي تكتنفها نفسه، والمعاني الصادقة المعطرة بحب الوطن والإخلاص من أجل رفعة اسمه، والتي ما لقيت مكانا آخر غير حوارنا سوى في لوحات فنية، تحمل طابعا إبداعيا خاصا ومتميزا به؛ فالفنان الشاب زهير السعيد، 27 عاما، حمل على عاتقه أن يسهم في تجسير العلاقة بين قيادة الدولة وبين عموم الشعب، مستعينا بريشته وصفحات بيضاء، متخطيا كل ظروفه الإجتماعية بشعاره «إذا كان كل ما حولك مظلما، فكن أنت الشمعة التي تبدد العتمة».
السعيد، وطوال حوارنا الذي دام ثلاث ساعات غير منقطعة، كان يحاول أن يرسم لنفسه صورة متواضعة بعيدة عن الافتخار بنفسه، إلا أن إعتزازه بموهبته كان يبرز في كل كلمة وعبارة ينطقها، هذا الإعتزاز ما صنعه سوى إشادات المهتمين في مجال الفن التشكيلي الذي يبرع فيه، ويكفيه فخرا كما قال، شهادة شكر مذيلة بتوقيع جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة لما تضمنته لوحاته الفنية من قيم إبداعية وحس وطني وشعور صادق، كان يحملها معه بكل اعتزاز، وبخجل همس «أريد من القيادة أن تحتضن أعمالي، أحتاج للفرصة وسأثبت كيف أستطيع أن أرفع اسم البحرين عاليا في المحافل الدولية».
يقول زهير «مبدعو البحرين تتكدس لوحاتهم بالعشرات في منازلهم، فأين الجهات الرسمية عن دعمهم وتشجيعهم، أنا أطمح لأن يتم تفريغي كي أكون سفيرا لونيا لبلدي، فأنا مؤمن في النهاية أنني فنان، يجب أن اصل لكل مكان بلوحاتي التي تحمل مضامين انسانية ووطنية لأخلق صورة جميلة للوطن والفن البحريني».
معركة إثبات الولاء
«العملية الإبداعية تحتاج إلى ظروف خاصة، ولا يجب أن يشغل المبدع بتحصيل لقمة العيش، نريد دعما حقيقيا للشباب البحريني المبدع، وكفانا شعارات رنانة، وخصوصا حينما يكونون في مقتبل العمر حتى تكون فترات عطائهم أكبر، وفرصتهم للتطور افضل».
قدم السعيد عروضا في الكثير من الدول الأوروبية، لاقت استحسان وتقدير الجماهير هناك، إذ يجدهم أكثر فهما وقبولا للإبداعات، موضحا على هامش ذلك بأحد المشاهد قائلا «فتح لي رجل كبير في السن باب السيارة، قائلا لي تفضل يا سيدي من ليبدي تقديره لما قدمته في أحد المعارض السويسرية».
يستدرك بعد ذلك قائلا «أنا فنان ولست عابدا للشهرة، هناك الكثير من الطاقات في وطننا ينقصهم الإحتضان، فالوطن وطننا، وأي شيء يخدم هذا البلد ويرفع من شأنه، نحن على أتم الاستعداد لنقدمه، نحن في معركة الولاء للوطن أو لغيره، وذلك ما دفعني لرفض الكثير من العروض بدعمي في الرسم مقابل البقاء في بعض الدول، وكلي ثقة بأنني سألقى التقدير في وطني».
لوحاته تخلد رسالته المُحارَبة
تتسم معظم لوحاته بالصبغة الوطنية، ويجد نفسه مسئولا عما يقدمه من إنتاج كما يعبر «أمام ريشتي ولوحتي» إذ يقضي ساعات الليل والنهار في مرسمه كي يقدم أعمالا تحمل مضامين إنسانية تشرف هذا البلد، معلقا بالقول «أنا راحل مهما طال عمري، لكن نتاجي باقٍ في هذه الدنيا من بعدي».
ومع اختلاف الرؤى السياسية في البلد، يجد زهير نفسه محاربا في الأوساط الاجتماعية التي يعيش فيها، إذ يفرض البعض أن يكون الشخص معهم ضمن القالب السياسي ذاته، وإلا فإنه يتحول إلى رمز سيئ بينهم ويرمونه بالألقاب المسيئة.
يوضح السعيد نظرته السياسية بالقول «مراهقتنا تزامنت وأزمة التسعينات، آمالنا وأحلامنا لم نعشها بصورة صحيحة، إذ نستيقض من النوم لنسأل عمن تم القبض عليه وما حصل من مناوشات في الليلة السابقة، كنا نعيش في وجل، فهل نحن مستعدون لتقديم المزيد من العذاب والألم بعد أن جاء الملك وأعلن الصلح مع الشعب، ووافق الشعب على ذلك بنسبة 98.4»؟
من أجل ذلك، يحمل زهير مشروعه المقبل في تنفيذ اكبر جدارية للوطن على مستوى العالم، منتظرا الحصول على الدعم اللازم لذلك، إذ يقول «انا قادر على تقديم هذه الجدارية في وقت قياسي، وأمام أنظار الجماهير، وهذا المشروع له أهداف وطنية كبيرة، وأحلم بأن ترسم الجدارية أمام قصر الصافرية، إذ حين تتيسر الأمور، سأقوم برسمها على القماش، وأريد لها أن تدخل موسوعة غينيس، ليس لإسمي، وإنما للبحرين، ففي هذه اللوحة وحدة وإجماع».
خطوة للعالمية
«أي إنسان لديه مبدأ ويسعى للوصول إليه، أنا أريد أن أصل للعالمية، وأكون سفيرا لوطني؛ لست عبدا للشهرة، وإنما مؤمن بأن إسم البحرين يجب أن يرفع عاليا بين باقي الدول العالمية».
يخطو السعيد خطوته لذلك، إذ يعتزم تقديم ثلاثة أعمال بمناسبة ذكرى 11 سبتمبر/ أيلول، تعبر عن رفض التطرف والإرهاب، وكرسالة من البحرين تحمل تعاطفا مع قضية إنسانية.
«لوحتي الأولى هي عبارة عن 50 وردة بعدد ولايات أميركا، مصبوغة بألوان علم البحرين، تحمل استشرافا للمستقبل وآمالا بتلاشي الدمار والعنف، فالدين لا يدعوا للعنف بل للتسامح، واللوحة الثانية فهي لحصان عربي يبكي، إذ يرمز الحصان لأصالة وتراث البحرين، وهو في حالة انكسار لما حصل».
أما اللوحة الثالثة فهي لصراع قوى الخير وقوى الشر، ويصف مضمونها أن «الناس ينقلون لنا ثقافة الموت، بينما المستقبل للاشخاص الذين يحملون المحبة، فالمستقبل ليس للتطرف وإنما للحياة الجميلة، وعندما تقتلني من دون سبب لأنني أميركي، أو تقتنصني لأنني شيعي أو سني، تأتي هذه اللوحة لتجسد جميع هذه المضامين».
عملاق شاب في بدايته
كان نادي الفنون الجميلة في جامعة البحرين بمثابة الأرض الخصبة لموهبته، وبرز نشاطه من خلاله، إذ كان يقدم دورات للأعضاء في النادي، وساهم في المعارض الفنية التي تنظمها الجامعة، واكتسب شهرته من خلال مشاركاته هناك، ودعم عدد من إداريي وأساتذة الجامعة.
«الأساتذة خليل الخنيزي، نبيل العامري، وسعيد منصور لهم كل التقدير والامتنان على دعمهم لمسيرتي من خلال الجامعة، على رغم أنني كنت أقدم نفسي في معارض الجامعة كفنان مكتمل وليس كطالب، فإن ذلك لم يكن إلا في الكفة الإيجابية لي، وأكسبني الاحترام من الجميع».
عن إشكاليات تلك المرحلة يقول السعيد «لدينا طاقات واساتذة وفنانون أحق بالتدريس في الجامعة ممن يحملون الشهادات الأكاديمية، ولا يحملون أخلاق مهنة التعليم، إذ كنت أواجه معاداة من أحد الاساتذة الذي كانت غيرته جلية ما أقدمه، وكان يحاول دوما أن يثبط من عزيمتي ويقلل من نظرتي لنفسي».
سيل من التساؤلات يطرحها قائلا «لماذا لا نملك كلية خاصة بالفنون الجميلة في البحرين؟ لماذا تمتلك الكويت والشارقة مثلهما ولا نملك نحن ذلك، على رغم أن الإستثمار القادم هو في الثقافة والفن؟ نحتاج في البحرين على أقل تقدير لمعهد للفنون إلى جانب إيجاد متحف خاص بالفن المعاصر يعرض فيه مبدعوا البحرين أعمالهم، ويعكس للسياح الواجهة الفنية والإبداعية للفنان البحريني».
أما عن دور المؤسسة العامة للشباب والرياضة في دعم المواهب الفنية يقول «تهتم المؤسسة بالشئون الرياضية أكثر من اهتمامها بالثقافة، وأنا أدعوا لدعم الشباب من قبل الجهات المعنية كمجلس التنمية الاقتصادي الذي يساهم ماديا بدعم برنامج ربيع الثقافة، فهناك مواهب تستحق الاحتضان والرعاية، كما أتمنى أن يتم فصل قطاع الثقافة عن وزارة الإعلام كي يختص كل بشأنه ويركز على عطائه بشكل أفضل».
آخر أحلامه لخصها في صورة عمل يقدمه للشباب البحريني قائلا «أتمنى أن انشئ غاليري خاص بي أجمع من خلاله الشباب لطرح ما يبدعونه، سواء من أعمال فنية أو من خلال تقديم الفقرات الموسيقية للحضور»، واختتم السعيد حديثه الغاصقائلا: «سعيت دوما لأقدم نفسي بأساليب خاصة من خلال ممارسات وخبرة وعمل متواصل، إلا أن كلمة جمال الدين الأفغاني تحضرني دوما حين يقول (نحن نقتل المبدع حيا، ونحييه ميتا)».
العدد 1819 - الأربعاء 29 أغسطس 2007م الموافق 15 شعبان 1428هـ