كنت قد طويت حديثي عن ملف المعونة الأميركية لمصر، واستخدامها السياسي، بل واستغلال جانب منها في زرع الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، وبالتالي في تخريب الوحدة الوطنية وتهديد الأمن القومي.
وقد قدمنا دلائل واضحة على سياسة هيئة المعونة الأميركية في التمييز بين طرفي الوحدة الوطنية، وطرحنا وثيقتين أميركيتين تثبتان هذا التمييز الخطير، ومن ثم طالبنا بالتدقيق والتحقيق في هذا الأمر، لوقفه توقيا لتراكم آثاره وتفاديا لشق مجتمع ظل لآلاف السنين نموذجا للوحدة، مهما تعددت دياناته وتراكمت ثقافاته واختلفت مذاهبه وتوجهاته.
وحتى هذه اللحظة لم ترد الحكومة المصرية ولم تعلق بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، باعتبارها المسئولة عن حماية الوحدة الوطنية، والمكلفة بمقاومة الاختراق والتدخل الأجنبي، وخصوصا إذا ما ضرب جوهر ومفهوم المواطنة والوطنية... وها نحن نجدد بإصرار المطالبة بالتدقيق والتحقيق، حتى لا تذهب الظنون إلى آفاق أخرى!
لكن الجانب الأميركي المانح للمعونة، هو الذي سارع بالرد، استشعارا منه بأن القضية التي أثرناها من قبل قد اجتذبت اهتمام الرأي العام المصري والعربي، لكن الرد الأميركي جاء للأسف مراوغا، ولم ينف الوثيقتين اللتين طرحناهما هنا، وقد جاء بهما كيف أن هيئة المعونة قد عدلت هيكلة المعونة الاقتصادية لمصر، للتركيز على الإنفاق على المناطق والقرى ذات الكثافة السكانية المسيحية، فضلا عن دعم جمعيات ومنظمات مسيحية محددة لها الأفضلية من وجهة نظر أميركية.
فقد نظمت الوكالة الأميركية للتنمية في مصر، لقاء مع مجموعة من الصحافيين المصريين تحدث فيه نائب مدير هذه الوكالة جون جورورك، ليرد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على ما تناولناه، عن الاستخدام السياسي للمعونة والتمييز في إنفاقها، وانفردت «الأهرام» بنشر ما قاله جورورك بتوسع لافت يوم الأربعاء 22أغسطس/آب2007، بينما لم أجد حرفا واحدا منه في عشر صحف صدرت في اليوم نفسه، وهي صحف «الأخبار» و»الجمهورية» و»الأهرام المسائي» و»المصري» و»اليوم» و»الوفد» و»نهضة مصر» و»روز اليوسف» و»البديل» و»الأهالي» و»الدستور»، الأمر الذي يثير الانتباه على كل حال!
وعلى رغم استعراض الرجل المطول لفوائد المعونة الأميركية لمصر على مدى أكثر من ربع قرن، فإن ما يهمني في هذا المجال، أنه أولا نفى وجود «أي برامج أميركية موجهة للأقباط في مصر، وأنه لا تفرقة على أساس الديانة عند توزيع المعونة التي لا تمنح لأي جمعية لأهداف دينية، ولكنها تمنح لتنفيذ أهداف تنموية ومجتمعية عامة».
وثانيا أكد الرجل «أن المعونة الأميركية المباشرة سواء لجهات أهلية أو أشخاص تتم بعلم الحكومة المصرية».
هكذا ألقى الجانب الأميركي المانح للمعونة، بالكرة في ملعب الحكومة المصرية، مؤكدا أن كل ما يصرف من هذه المعونة لا يتم من وراء ظهر هذه الحكومة، بل بموافقتها، وهو ما نراه، إن كان صحيحا، يشكل تهاونا من جانبنا، حين تسمح أية حكومة أو دولة لطرف أجنبي بأن يخترق وحدة نسيجها الوطني جهرا، فيقدم المساعدات والمعونات لجزء من شعبها دون غيره، بما يحقق أهدافه وسياساته، بينما الأصل أن تتولى هذه الحكومة الحصول على المعونات الأجنبية، وتقوم هي بإنفاقها وفق خططها وسياساتها وبما يحقق أهدافها الوطنية!
ولأن الأمر كذلك فقد طالبنا بالتدقيق والتحقيق، سواء من جانب الحكومة المسئولة، أو من جانب البرلمان، أو من جانب منظمات المجتمع المدني وفي مقدمتها الصحافة، حتى لا نظل نمارس سياسة الإخفاء والتمويه والإنكار أو التجاهل!
الآن... نعود إلى الجزء الأول من حديث نائب مدير الوكالة الدولية للتنمية والذي نفى فيه التمييز بين المسلمين والمسيحيين حين توزع المعونة الأميركية في مصر وطريقة إنفاقها.
والحقيقة أن الرجل لم يقل الحقيقة، وبالتالي لم ينف أو يناقض المعلومات والحقائق التي نشرناها من قبل، بشأن هذا التمييز، والتي حصلنا عليها مباشرة من وثيقتين أميركيتين قدمتا للكونغرس، وأذاعتهما وزارة الخارجية الأميركية في يوليو/ تموز 2007، الأولى هي شهادة نائب مدير هيئة المعونة الأميركية جيمس كوندر، أمام الكونغرس، والثانية هي وثيقة أعدها مركز أبحاث الكونغرس الصادرة في يوليو الماضي، وقد تم توزيعها على أعضاء الكونغرس، فإن لم يكن ممثل هيئة المعونة في مصر الذي نفى ما سجلناه، قد اطلع على الوثيقتين فإننا على استعداد لتزويده بهما إن كان ذلك مفيدا لمعلوماته!
وأهم ما جاء في الوثيقتين، هو التأكيد على إعادة هيكلة برامج المساعدات الأميركية لمصر «لزيادة التركيز على الإنفاق على مشروعات هيئة المعونة في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية وتنمية المجتمع المدني، خصوصا في كل منطقة ذات نسبة سكانية قبطية كبيرة وبشكل رئيسي في جنوب مصر والقاهرة والاسكندرية».
بعد أن أعادت المعونة الأميركية «تأهيل وتوسيع محطات المياه في 18 قرية ذات النسبة السكانية القبطية الكبيرة، وقد زادت نسبة التمويل للقرى ذات النسبة السكانية القبطية الكبيرة لبرامج معالجة المياه وحدها، على 200 مليون دولار خلال السنوات الخمس الماضية»، وفي مكان آخر تقول هذه الوثائق نصا «لقد وجه صانعو القوانين، أي الكونغرس، تعليمات لوزارة الخارجية بأن تمول برامج المشاركة المدنية وحقوق الإنسان في الجالية القبطية المسيحية في مصر!» وعلامات التعجب من جانبنا على استخدام لفظ الجالية وصفا لأقباط مصر، وهم في رأينا من صلب النسيج الوطني المصري، وليسوا جالية أو طائفة كما قالت الوثيقة الأميركية.
هذه هي بعض الحقائق والمعلومات الموثقة التي اعتمدنا عليها من المصدر الأميركي الرسمي مباشرة، وغيرها كثير لمن يريد الاستزادة، لكن مندوب المعونة الأميركية في القاهرة تجاهلها ولم يؤكدها بل نفاها بطريقة الغمغمة والتمويه والتعمية والابتسار، ما دفعنا إلى إعادة فتح الملف، طلبا للتدقيق والتحقيق من جانب الحكومة المصرية، لأن الأمر يتعلق بزرع الفتنة، وتمزيق الوحدة الوطنية بإغراءات خارجية رخيصة مهما ارتفع ثمنها.
- بقي أن نقول للرأي العام المصري والعربي، إن هذا النهج الأميركي في التمييز بين أبناء الوطن على أسس دينية أو طائفية أو عرقية، يمثل استراتيجية عريضة لفرص «الفوضى الخلاقة» تحت السيطرة الأميركية، وراثة عن تقاليد الامبراطوريات الاستعمارية الأوروبية القديمة وشعارها «فرّق تسد» وها هي تفعل علانية!
- صحيح أننا نطالب الحكومة المصرية بالتدقيق والتحقيق، في هذه الاختراقات، لكننا نراهن أكثر على صحوة المجتمع كله بمسلميه ومسيحييه لمواجهة الاختراق ورفض إغراءاته!
- لا عتاب ولا ملامة على الإخوة المسيحيين، وخصوصا الفقراء منهم، إن جاءهم من يقدم لهم المساعدة، أميركية كانت أو أوروبية، لكن اللوم يقع على من تسبب في فقرهم وتركهم لقمة سائغة للمانحين، ثم اكتفى بإغماض العين!
- يعرف كثيرون جيدا أن جزءا من المعونة التي تخصص للجمعيات الأهلية، يذهب إلى نشاطات كنسية تمارس التبشير، ليس لتحويل المسلمين إلى مسيحيين، بقدر ما هي لتحويل الأقباط الأرثوذكس أتباع الكنيسة الوطنية، إلى الكنائس الإنجيلية البروتستنتية ذات النفوذ في أميركا خصوصا.
وهذا أمر تشكو منه الكنيسة المرقصية المصرية، أكثر مما يشكو منه الأزهر مثلا، وهي شكوى سمعتها بأذني من مراجع عليا في البطريركية الأرثوذكسية منذ سنوات.
- لا أود في النهاية الدخول في عبثية المسلم الذي تنصر بالتبشير أو المسيحية التي تأسلمت، لكني أقول إن التبشير يأتي إلى المشرق العربي الإسلامي، على موجات، منذ مواجهات الحروب الصليبية، لكنه شهد هجوما عاتيا منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر بالتلازم مع الهجوم الاستعماري في عصر الامبراطوريات الأوروبية والكشوف الجغرافية، لقد أتى بتحالف بين المطامع السياسية والحملات التبشيرية الدينية، تلك التي قادتها أساسا الكنائس الكاثوليكية والبروتستنتية الأوروبية، مستهدفة مسيحيي الشرق وخصوصا الأرثوذكس، فضلا عن استهداف مسلميه... (راجع كتابنا المعنون «كراهية تحت الجلد»).
ولقد مارست هذه الحملات المزدوجة ضغوطا وقدمت إغراءات كثيرة عبر العصور، للهمينة على هذا الشرق الغامض، لكن انتهت الحملات وسقطت الامبراطوريات، وبقيت أوطاننا بمسلميها ومسيحييها... وستبقى، بشرط أن نقاوم الفتنة!
خير الكلام: الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها...
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1818 - الثلثاء 28 أغسطس 2007م الموافق 14 شعبان 1428هـ