كل من أتيحت له فرصة دراسة كتب النحو القديم، لابد أن يعلق بذهنه المثل المأثور: «لا تأكل السمك وتشرب اللبن»، لدواعٍ صحية أقلا، أما في الندوة (البيئية) الأخيرة لجمعية «وعد»، فحذّر الباحث الكويتي مبارك العجمي من تناول أسماك خليج توبلي بالمرة... بلبن ومن دون لبن!
أحد الحضور سأله ملاطفا: «أنا رجل غشيم، شلون أميز إذا دخلت السوق بين سمك توبلي وغيره؟» فأجابه: «إذا أردت أن تميّز الأسماك الملوثة، فإن عيونها تكون جاحظة، والجفون فيها احمرار»، وهي نصيحةٌ صحية مهمة لصحة القراء.
الندوة كانت خاتمة جدلٍ طويلٍ خاضه الضيف الكويتي مع عدد من المسئولين الرسميين في بلدنا، ارتضوا لأنفسهم إخفاء الحقائق، والتستّر على الفضائح، بينما وقف العجمي يتحدّاهم: «السمك ملوث... وأنا أتحمل مسئولية كلامي».
وإذا كان من المفهوم أن يتطوّع بعض المسئولين للدفاع عن مواقعهم الوظيفية، إلاّ أن من المستهجن تطوّع بعض البيروقراطيين للاستنقاص من جهود الناشطين والصحافيين والبيئيين لإنقاذ الخليج، بحجةٍ سخيفة، وهي ان (سعادته) كان يمارس رياضة المشي على ساحل الخليج منذ عشرين عاما وهو يرى التلوث، فما هو الجديد؟ وفاتت عبقريته ان ما قاله حجة عليه وليست له... لأنه سكت على الجرائم البيئية عشرين عاما كالشيطان الأخرس، بينما تولى الدفاع عن الخليج مواطنون شرفاء بمجرد معرفتهم بخيوط الجريمة.
الباحث الكويتي بدأ الندوة بدعوة الحضور للوقوف «دقيقة صمت على روح البيئة» في البحرين، وسمعنا منه كلاما فيه الكثير من النقد والتقريع، من الصعب تقبّل بعضه لولا معرفتنا بصدق نواياه وحرصه على بلدنا وبيئتنا، في وقتٍ آثر فيه الكثيرون منّا صمت الشياطين.
كان واضحا ان العجمي ينطلق في طرحه من أجواء تجربة الكويت الشقيقة، فهو يقول: «لو كانت مثل هذه المشكلة عندنا في الكويت لاحتلت حيزا واسعا من اهتمام المسئولين»... لكن المشكلة يا صديقي اننا في البحرين ولسنا في الكويت. من هنا كانت النقطة التي أثارت الكثير من التعقيبات والمداخلات، هي دعوته لـ «عدم تسييس قضية البيئة».
الفرضية سليمة نظريا، كلنا نتمناها، لكنها صعبة وبعيدة المنال، فالمدافعون عن البيئة هنا ليسوا في مواجهة جهة متورطة واحدة، وإنما أمام طابور طويل من المتمصلحين والسماسرة والموظفين المدافعين عن كراسيهم، بالإضافة إلى الكتاب الطفيليين اللزجين.
وللعلم... حتى الصحافة لم تدخل الميدان رغبة في الجدال والمماحكات السياسية، وليس هناك كاتبٌ صحافيٌ يوطّن نفسه لكتابة 15 مقالا عن خليج ملوّث إلاّ لإحساسه بحجم «المؤامرة» التي تتعرض لها هذه الأرض. ولم تكن هناك مؤامرة محلية أو أجنبية تستدعي شبهة «التسييس»، فكل ما حدث هو أن خيطا يجر خيطا، بدءا من نشر صور نفوق الأسماك على ساحل النبيه صالح، التي قادت إلى كشف مخلفات محطة توبلي ومصانع الرمال ودفن البحر وأخيرا... انكشاف مخطط بيع الأراضي!
يقينا لم يكن هناك من يرغب بتسييس الملف، ولكن في بلدٍ تعجز مؤسساته وأجهزته الرسمية عن إزالة حظور أو جدار عازل لمدة 45 يوما؛ وتستقتل وزارة الصحة (المؤتمنة على صحة البحرينيين)، لنفي زيادة حالات السرطان والإجهاض والربو بسبب تلوث المعامير؛ وتتعامى عن حالات الصمم التي تصيب ثلث أهالي المحرق؛ ويدّعي مدير إدارة الثروة السمكية بأن «نفوق الأسماك ظاهرة طبيعية»، ويرجعها نائب الرئيس لشئون البيئة والحياة الفطرية إلى ارتفاع درجات الحرارة... في هذا الوضع التآمري المحبط، هل من الواقعي مطالبة من اجتهدوا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعدم التسييس، وهم يرون الخليج كالذبيحة معلقا من رجليه للبيع؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1817 - الإثنين 27 أغسطس 2007م الموافق 13 شعبان 1428هـ