كلنا يعرف اليونان، تلك الدولة البلقانية التي حكمها العسكر عقودا، حتى استقرت «الجمهورية الهيلينية» كما تسمى في لغتهم رسميا (إلينيكي ديموكراتيا)، ويعتبرها المؤرخون أرض الفلاسفة ومنشأ الديمقراطية ومهد الحضارة الغربية، لما يحمله تاريخها من إرث حضاري عريق يعود إلى آلاف السنين.
اليونان في العصر الحديث ظلّ يذكرها العالم بالانقلابات حتى منتصف السبعينات، حين رست فيها سفينة الديمقراطية. أما في الأيام الأخيرة، فقد برزت على سطح الأخبار بسبب حرائق الغابات الضخمة التي تسبّبت في مقتل أكثر من خمسين شخصا حتى ظهر أمس، وإخلاء قرى قريبة من موقع أوليمبيا التاريخي، الذي يعتبر مهد الألعاب الأوليمبية، مع تزايد أعداد الضحايا. وهو ما جعل رئيس الوزراء كوستاس كارامانليس يعلن حال الطوارئ وتعبئة كل القوى لمواجهة الكارثة بعد انتشار أكثر من 170 حريقا في مناطق مختلفة.
كارامانليس أعرب عن شكّه في أن يكون اشتعال هذه الحرائق في وقت واحد، مجرد مصادفة، وهدّد بالعثور على المسئولين عن إشعالها ومعاقبتهم على إزهاق الأرواح، قائلا: «لا يحق لأحدٍ التسبّب بمقتل الآخرين وتدمير بيئتنا وبلدنا».
عموما، الرأي العام والمسئولون هناك، يذهبون إلى أن الحرائق متعمدة، والسلطات اليونانية ألقت القبض يوم الجمعة الماضي على رجل اتهمته بإشعال الحرائق عمدا، والتسبب بوفاة ستة أشخاص. ويزداد الحنق العام ضد مفتعلي هذه الحرائق، إلى درجة أن طالب بعض أفراد الجمهور بإعدام من يثبت تورطه في حرائق متعمدة.
ما فاقم الوضع اقتراب الحرائق العنيفة من مركز العاصمة (أثينا) ببضعة كيلومترات، وإغلاق طريق المطار، تبعه إعلان الحداد الوطني لثلاثة أيام تنكس خلالها الأعلام، وتعليق أعمال الدعاية للانتخابات المقبلة، بل ان كارامانليس حث أعضاء حزبه على عدم استغلال موضوع الحرائق سياسيا. علما بأن حزبه المحافظ يعاني من انخفاض في شعبيته لصالح المعارضة الاشتراكية، بسبب سلسلة من الفضائح وإجراءات التقشف وحرائق الغابات. وهو ما عرّضه إلى ضغوط متواصلة لإجراء انتخابات عامة منتصف الشهر المقبل، قبل الموعد المحدد بستة أشهر. وربما تؤدي الكارثة إلى تأجيل الانتخابات، خصوصا مع توقع ارتفاع أعداد الضحايا، إذ لاتزال النيران تحاصر الكثيرين، فيما تنهال الاتصالات على الإذاعات المحلية من سكان المناطق النائية طلبا للنجدة.
فيما مضى، اعتادت اليونان على مواجهة الزلازل، بفعل طبيعة أراضيها، التي تغطّي المرتفعات الجبلية 80 في المئة منها، بل إن آلاف الجزر التي تتبعها، كانت يوما ما قمم جبال غمرتها مياه البحر المتوسط. لكن الحديث اليوم يشير أيضا إلى دور المناخ، وما لعبه الصيف الجاف من دور في جعل الأرض اليونانية كلها عرضة للحرائق، بعد أن بلغت الحرارة 40 درجة مئوية. لكن تبقى أصابع التهمة تشير إلى جهة «مجهولة»... تقف وراء الحرائق المفتعلة.
من يقرأ أكثر، يكتشف أن هناك شركات استثمارية كبرى، متورطةٌ في اللعبة، فبعد أن تخمد ألسنة النيران، وتتحوّل غابات الأشجار المعمرة إلى رماد، تأتي هذه الشركات لتكنس الأرض، تمهيدا إلى تحويلها إلى مبانٍ ومجمعات سكنية تدرّ ذهبا. هل يهم هذه الشركات الجشعة موضوع الحفاظ على البيئة؟ هل يهم كبار الرأسماليين مشاهد الأجساد المتفحمة في النيران؟ وهل سيتمكن كارامانليس من القبض على الجناة وإيقاع العقوبة والقصاص؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1816 - الأحد 26 أغسطس 2007م الموافق 12 شعبان 1428هـ