هنا الوردة... فلنرقص هنا
عبد الرحمن النعيمي... سلاما
سعيد سيف @... إشتياقا
لا أتصوّر أن يجتمع شمل مؤتمر في البحرين خصوصا لتيارات قومية عربية وإسلامية ويسارية، من دون أن يكون عبد الرحمن النعيمي حاضرا. لم يتخيّل أحد غيابه، وظل مقعده شاغرا، حيث اختطفت الغيبوبة اللعينة، صديقنا العتيق منذ أسابيع وانشغل به الجمع السياسي والفكري العربي، من مغرب الوطن وحتى مشرقه، ومن شماله حتى الخليج في جنوبه.
هو القدر الغاشم الذي يداهمنا كذئب مفترس، مُدركا بكل لؤم وتشفّي ان هذه الاصابة وهذا الاستهداف إنما هو بالصميم. يقول الشريف الرضي:
ما أخطأتك النائباتُ
إذا أصابت من تحبُّ
ويقول الجواهري الكبير مخاطبا وزيرة الثقافة السورية االسابقة نجاح العطار:
يظلّ المرءُ مهما أدركتهُ
يدُ الأيام طوع يد المصيبُ
حديثي عن عبدالرحمن النعيمي الغائب - الحاضر جعلته محطات أطلّ منها عليه.
المحطة الأولى - ظفار / عدن
إلتقيت به في عدن، وكان عائدا لتوّه من ظفار مارس/ آذار 1974 وكنت أحضر مؤتمرا عن «ديمقراطية التعليم والإصلاح الجامعي». عرّفني عليه صديقنا المشترك شايع محسن (القيادي اليمني في الحزب الاشتراكي) وقدّمه لي قائلا: إنك ستحبّه وطلب منه الإعتناء بي، كما طلب مني أن أستمع إليه، خصوصا عن بعض تفاصيل ثورة ظفار ومؤتمر الجبهة وإعلامها.
تطلّعت في هيئته، وكأنه أدرك ما في نفسي، فقال لي: إن لبس الفوطة (الإزار) (الوزرة باللهجة العراقية) مريح جدا وخصوصا في الصيف! بإبتسامة عذبة ومودة صادقة وعناق حار بدأنا صداقة مديدة طالت ثلاثة عقود ونصف من الزمان.
طلبت منه أن يعرّفني على سلطان أحمد عمر (أمين عام حزب الطليعة الديمقراطية) لأنني كنت أحمل له رسالة من زميلي محمد أحمد زيدان (القنصل في السفارة اليمنية في روما سابقا)، وفعل ذلك بكل ممنونية وارتياح.
مساء ذلك اليوم أو اليوم الذي تلاه دعانا الرئيس سالمين على العشاء وحضر كاجمن الألماني وفلاديمير السوفياتي وفتحي الفضل وأبا سعيد حسن السودانيان، كما حضر عبد الرحمن النعيمي وآخرون. يومها همس بأذني: إنها تجربة متميّزة!
المحطة الثانية - دمشق/ وحركة التحرر
كان الشيب قد إختطّ شعر عبد الرحمن النعيمي، الذي ظل إسمه غريبا علينا وعليه أيضا، فحتى بعد عودته كان اسم سعيد سيف أقرب إلينا وإليه وربما أكثر ألفة، لعل الأمر يعود إلى شيء من النستالوجيا أو الحنين إلى الماضي، إلى أن إعتدنا على الاسم الجديد « عبدالرحمن «تدريجيا.
في مكتبه الصغير مقابل فندق أميّة في الشام الحبيبة، كان يجمع وينظم ويستضيف ويحتفظ بالمحاضر ويوّجه الرسائل والدعوات ويقدّم لنا أقداح الشاي وفناجين القهوة. هو فلسطيني وعراقي ولبناني وسوري ومصري ومغاربي وخليجي. إنه كل ذلك في الآن ذاته.
اللقاء الأول في الشام (أوائل الثمانينات) كان حديثنا عن فهد السعودي والقرامطة ورحيله إلى باريس. استذكرنا فهد مرّة أخرى بعد زيارتي للمشاركة في مؤتمر اللومونتيه العام 1987، يومها علّق «أبو خالد» (عبدالرحمن): فهد آخر الثوار أو الثوري الأخير!
المحطة الثالثة - القرار 3379 وفلسطين
كانت تلك محطة مهمة في حياتنا وعلاقاتنا. اجتمعنا على هامش ندوة لإتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين، وتقرر في المؤتمر بناء على مقترح للصديق المفكر السوري جورج جبور وكاتب السطور تأسيس منظمة بإسم «اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379» وتحوّلت إلى «اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية».
وكان عبدالرحمن النعيمي وناجي علّوش وإنعام رعد وعبد الفتاح يونس وسعدالله مزرعاني وصابر محيي الدين أعضاء مؤسسين فيها وأصبح جبور رئيسها وكاتب السطور أمينها العام من العام 1986-1989.
المحطة الرابعة - طرابلس
كنّا نحضر ندوة عن الأزمة في حركة التحرر الوطني العام 1985 من التيارين القومي العروبي واليساري الماركسي، وأبلغنا باستقبال الأخ « القائد» لنا. انتظرنا لنحو ساعة في قاعة مكتّظة ومزدحمة وقليلة التهوية في صيف تموزي حار. اضطررنا إلى مغادرة القاعة عبدالرحمن وأنا... مشينا نحو 3 ساعات وصلنا إلى الفندق. عاد الزملاء وأبلغونا «لم يحضر الأخ القائد... خاطبنا من التلفزيون... واستمعنا إليه» علّق عبدالرحمن: فزنا وربّ الكعبة!
المحطة الخامسة - المنبر
في الثمانينات بدأت السبل تتباعد بيننا وبين القيادة الرسمية للحزب الشيوعي بسبب مواقف فكرية وسياسية وتنظيمية اتّخذناها، خصوصا من الحرب العراقية - الإيرانية، بعد أن إنتقلت إلى الاراضي العراقية. شعرنا أن إعلان موقف واضح أصبح واجبا والسكوت يعني تواطؤا. أصدرنا عددا من المذكرات ووقعنا احتجاجات وأجرينا اتصالات وأصدرنا صحيفة بإسم «المنبر». كان لي شرف تحريرها والإشراف عليها في بيروت.
وقف النعيمي معنا، دعمنا، شاركنا همومنا، لكنه لم يتدّخل بالتفاصيل والخصوصيات. مرّة دعانا إلى اجتماع لكوادر الجبهة الشعبية في البحرين، التي كان أمينها العام وكانوا قد جاءوا من «الداخل» حضرنا: محمود شكاره وعلي شوكت وأنا. وكان الاجتماع في بيته. ناقشونا وأجبنا على أسئلتهم وما كنّا نطرحه بخصوص تجديد الفكر الاشتراكي وتطوير الماركسية وقضايا الحرب والسلام والثورة والتحالفات السابقة واللاحقة، وتقويم أخطائنا، وأساليب الكفاح والبيروقراطية والتسلطية الحزبية، التي وصلت بفعل المنفى إلى حد خطير والبيروستريكا والخطر الصهيوني الجديد!
هدّده أحد المتنفذين ملوّحا له بالأجهزة بشكل ناعم في البداية، ثم بإسلوب خشن... لكنه لم يكترث إعتقاده أن موقفه مبدئيا!
المحطة السادسة - الحرب والاعتقال
لم يتخلّ عبدالرحمن عن مبدئيته... ظل متمسكا بها وفيا للقيم والأخلاق إلى أبعد الحدود. عند احتلال القوات العراقية للكويت رفض النعيمي الغزو والضم، لكنه في الوقت نفسه رفض الحرب على العراق ودعا في تصريح أصدره إلى انسحاب القوات الأميركية من الخليج والجزيرة العربية، ودعا الدول العربية إلى عدم الانخراط فيها.
لدى وصوله إلى مطار دمشق اعتقل احترازيا، وظل في المعتقل بضعة أشهر حتى انتهت الحرب، وبدأت كارثة جديدة، فقد تحررت الكويت وانسحبت القوات العراقية منها، لكنه تم تدمير العراق. بحكم حسّه السياسي كان يدرك من وقف معه في تلك المحنة ومن دافع عنه على مستوى العلاقات السياسية مع الاخوة المسئولين السوريين أو عبر المنظمات الدوليةالحقوقية وخصوصا منظمة العفو الدولية.
قال لي على الهاتف وأنا أهنئه على استعادة حريته: اشكر جميع الاخوات والاخوة الذين وقفوا معنا. وسألته لاحقا هل تعرّض للتعذيب؟ أجابني بالنفي، وأردف قائلا: لقد تعاملوا معي باحترام. ثم أضاف: أنا لست نادما لموقفي على رغم أنني تعرّضت للإساءة وحجب الحرية!
@ سعيد سيف هو الإسم الحركي لعبدالرحمن النعيمي، الذي انتقاه خلال فترة النضال السري، في السبعينات والثمانينات والتسعينات، حتى عودته من المنفى إلى البحرين، مع بداية حركة الإصلاحات والانفراج السياسي.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"العدد 1816 - الأحد 26 أغسطس 2007م الموافق 12 شعبان 1428هـ