بينما تحتفل الباكستان بالذكرى الستين لاستقلالها، تجد نفسها غارقة في أزمة سياسية أخرى تبدو صعبة الحل. فقد قضت الدولة التي أسسها واحد من ألمع رجال القانون في شبه الجزيرة الهندية، محمد علي جناح، أكثر من نصف عمرها تحت الحكم العسكري. جناح تصور الباكستان دولة علمانية ديمقراطية. الباكستان يحكمها اليوم العسكر، ويبدو الجنرال برويز مشرّف مصمما على البقاء في السلطة على رغم عدم قدرته على منع العسكرية المتنامية والقلاقل السياسية التي ما فتئت تختمر في دولته.
لقد سار مشرف في طريق سار فيه الكثيرون من قبله. بدءا من أول انقلاب عسكري العام 1958 خاضت الدولة كفاحا مستمرا على السلطة بين حكام منتخبين وعسكريين. أصبحت الخطة معروفة اليوم. يقوم جنرال بقلب حكومة مدنية في انقلاب عسكري، مقدما وعودا متغطرسة رفيعة ولكنها متملصة لا محالة بإجراء انتخابات وإعادة الدولة إلى الحكم الديمقراطي.
قد لا تكون الديمقراطية هي الدواء العام لكل مشكلات الباكستان، إلا أنها طرح متجذر بعمق في حكم الدولة الباكستانية منذ إنشاء الدولة. بعكس الكثير من الدول الإسلامية الأخرى تمتعت الباكستان بفترات قصيرة من الحكم الديمقراطي. إلا أن الانتخابات لا تشكل إلا مكونا واحدا للديمقراطية ويجب دعمها بمؤسسات قوية مثل قضاء مستقل وصحافة حرة ومجتمع مدني نشط، وهي عناصر غابت، حتى فترة وجيزة - عن الساحة الباكستانية.
وفي مارس/ آذار ارتكب مشرّف غلطة بتعليقه أعلى القضاة منصبا في المحكمة العليا في الباكستان، هو افتكار شودري. قلة هم الذين توقعوا الدعم الشعبي الكاسح الذي تلا ذلك. استحوذت المطالبات بإعادة كبير القضاة واستقلالية القضاء على مخيلة الأمة. في قرار للمحكمة العليا هذا الشهر تمت إعادة كبير القضاة.
شكلت حركة المحامين هذه عرضا نادرا لم يسبق له مثيل لسلطة الشعب في الباكستان. دخلت الاحتجاجات إلى بيوت ملايين الباكستانيين عبر الإعلام الإلكتروني الباكستاني. لقد شهد حكم مشرف المستمر منذ سبع سنوات تقوية المجتمع المدني الباكستاني والصحافة الحرة، وهاتان هما المؤسستان اللتان يمكنهما أن تلعبا دورا مهما في سقوطه.
هناك قول مشهور في الباكستان مفاده أن ثلاثة أطراف تستطيع الإبقاء على تماسك الدولة: الله تعالى والجيش وأميركا. وقد يشكل القول إثباتا لحقائق أكثر عمقا حول القوى التي تشكّل الحياة السياسية الباكستانية. كانت الباكستان حليفا حاسما لأميركا في الأيام الأخيرة للحرب الباردة، التي شهدت هزيمة السوفيت في أفغانستان. واليوم تجد الباكستان نفسها مرة أخرى حليفا لا يمكن الاستغناء عنه في ما تسميه إدارة الرئيس بوش «الحرب على الإرهاب». إلا أن الدولتين طالما كانتا على علاقة صعبة ترسخت فيها الشكوك المتبادلة على الجانبين. وتعتبر حكومة باكستانية مستقرة صديقة أساسية للجهود الأميركية للإبقاء على السلام الناشئ في أفغانستان والحد من الأعمال العسكرية على الحدود بين الباكستان وأفغانستان.
الخوف من احتمالات سيطرة متطرفين دينيين معادين على الباكستان، وهي الدولة التي تملك أسلحة نووية، طالما كان هاجس صانعي السياسة الأميركية ومصدر خوفهم وقلقهم. حالة التعادل والجمود الأخيرة بين الحكومة والطلاب الأصوليين في المسجد الأحمر في قلب العاصمة إسلام آباد تقوي بشكل ظاهري ذلك المنظور. إلا أن للمؤسسة العسكرية الباكستانية تاريخا مريبا وموثقا جيدا من الدعم السرّي للأحزاب السياسية الدينية والمجموعات المسلحة لتهميش أحزاب التيار الرئيسي السياسية وتحقيق أهدافها في السياسة الخارجية. وعلى رغم أن الأحزاب الدينية قد تتمتع بدعم اجتماعي قوي في الباكستان فإنها لم تحصل إلا على نجاح انتخابي محدود كما أثبتت صناديق الاقتراع مرة بعد أخرى.
واليوم يجد مشرف نفسه على مفترق طرق مهم؛ فخصومة السياسيون يناقشون أنه من غير الدستوري له أن يبقى رئيسا للدولة وفي الوقت نفسه قائدا للجيش. ومع الانتخابات البرلمانية المقبلة في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل يجد الرئيس نفسه في مأزق صعب. فهو إما يحاول البقاء في السلطة على أمل الحصول على دعم حليفيه الرئيسين - الجيش الباكستاني وأميركا، أو أن يتنازل عن مركزه كقائد للجيش ويسمح بانتقال سلمي للسلطة إلى حكومة مدنية من خلال إجراء انتخابات تتمتع بالشفافية. وقد تؤمّن حركة كهذه له مكانا في التاريخ وتضمن عدم اختفاء إصلاحاته الاقتصادية والاجتماعية في الباكستان وراء محاولة يائسة للبقاء في السلطة مهما كان الثمن.
هناك دلائل على وجود محادثات سرية حديثا للتعاون بين مشرف وبنازير بوتو الزعيمة المنفية لأكبر حزب سياسي في الباكستان. إذا أثمرت هذه المحادثات فقد تكون هناك عودة للحكم المدني في الباكستان. لسوء الحظ أن هذا بحد ذاته لا يشكل ضمانا لحل سريع لآلاف المشكلات في الباكستان. فالسجل التاريخي لقادة الحزبين السياسيين الرئيسيين في الباكستان، بنازير بوتو ونواز شريف لا يبشر بالثقة بقيادة ديمقراطية في الدولة.
حتى يتسنى لثقافة سياسية ديمقراطية أن تغرس جذورها في الباكستان يجب السماح للحكومات المدنية بأن تكمل فترتها في الحكم. يجب على الشعب، إضافة إلى المؤسسات الديمقراطية، كالقضاء المستقل والصحافة الحرة أن تضع القيادة السياسية أمام المساءلة.
على المدى البعيد، قد يكون النموذج السياسي التركي لدور مؤسسي للجيش في السياسة هو الحل الوحيد لإبقاء توازن في السلطة بين المؤسسة العسكرية الباكستانية القوية والحكومات المنتخبة شعبيا.
* كاتب مستقل مقيم في الباكستان، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1816 - الأحد 26 أغسطس 2007م الموافق 12 شعبان 1428هـ