بدأت معركة الاستحقاق الرئاسي في لبنان ترسم حدود التنافر السياسي الداخلي المعطوف على تجاذبات أهلية واستقطابات إقليمية ودولية. فالمعركة في شكلها الدستوري لبنانية/ طائفية ولكنها في أبعادها السياسية تعكس تلك الخريطة العامة التي يتقاطع نفوذ قواها على ساحة مفتوحة ومكشوفة. وبناء على هذا التصور الذي يعتمد سلسلة تجارب وسوابق حدثت مرارا حين اقترب موعد الاستحقاق يتخوف الكثير من المراقبين أن يدخل لبنان في فراغ دستوري يعطل المؤسسات عن العمل وربما يعرضها للتفكك والانقسام كما حصل في محطات رئاسية سابقة. فهل تصل بلاد الأرز إلى هذه اللحظة الزمنية وتدخل في حالات من الانقطاعات السياسية وتتأسس على ساحتها مراكز حكومية تتسلح بهواجس أمنية أم تتدخل الدول الكبرى بالتعاون مع دول إقليمية لاحتواء الأزمة واختيار رئيس توافقي وغير منحاز أو مرتبط بجهة محلية؟
التجارب السابقة أشارت دائما إلى احتمال اللجوء إلى خيار الاحتواء. فهذا ما حصل في عهد الرئيس بشارة الخوري في العام 1952، وفي عهد الرئيس كميل شمعون في العام 1958، وفي عهد الرئيس فؤاد شهاب في العام 1964، وأيضا في عهدي الرئيسين شارل حلو وسليمان فرنجية في العامين 1970 و1976.
كل هذه التجارب أكدت أن خيار الاحتواء الدستوري لأزمة الرئاسة اللبنانية هو الأقوى. حتى بعد أن انفجرت الحروب الأهلية/ الإقليمية في العام 1975 وانكشفت الساحة أمام تجاذبات ممتدة دوليا وإقليميا حافظ لبنان على أصول اللعبة الدستورية فاختار المجلس النيابي في دورة عقدت خارج مبنى البرلمان الياس سركيس رئيسا للبلاد في العام 1976.
في نهاية عهد الرئيس سركيس حصل الغزو الإسرائيلي في العام 1982 واجتاحت لبنان الفوضى الأمنية وضرب الحصار حول بيروت، ولكن المجلس النيابي حافظ على دوره الدستوري وعقد جلسته في موعدها وانتخب بشير الجميل رئيسا. وقبل أن يتسلم بشير مقاليد الرئاسة اغتيل في انفجار وقع في منطقة الأشرفية، فسارع المجلس النيابي إلى عقد دورة استثنائية وانتخب شقيقه أمين الجميل لموقع الرئاسة حتى يتجنب لبنان الفراغ الدستوري.
حصل الجميل على غالبية 77 صوتا من مجموع 99 نائبا كما كان عدد مقاعد البرلمان آنذاك، ما أدى إلى تثبيت الموقع الرئاسي في فضاءات إقليمية ودولية مضطربة. ففي تلك الفترة (1982) كان لبنان تحت الاحتلال الإسرائيلي (مجازر صبرا وشاتيلا) ومصر تمر في مرحلة انتقالية بعد اغتيال الرئيس أنور السادات (1981) أعقبها انسحاب «إسرائيل» من الأجزاء الأخيرة المحتلة في سيناء. وأيضا كانت قوات منظمة التحرير الفلسطينية مشرذمة بعد أن توزعت عربيا على مجموعة دول، كذلك كانت الجبهة العراقية - الإيرانية تشهد أعنف المواجهات في الفاو والبصرة.
في ظل هذه الاضطرابات العنيفة حصلت مفاوضات لبنانية/ إسرائيلية للتفاهم على الانسحاب الإسرائيلي مقابل توقيع معاهدة سلام. وجرت تلك المفاوضات تحت سقف أميركي/ إسرائيلي وفي ظل إدارة متعاطفة ايديولوجيا مع حكومة مناحيم بيغن ويقودها من واشنطن أحد رموز تيار «المحافظين الجدد»، الرئيس رونالد ريغان.
آنذاك طرح ريغان مشروع حل دولي/ إقليمي للقضية الفلسطينية تألف من ثماني نقاط استنادا إلى نتائج الحرب الإسرائيلية التي وقعت ضد لبنان وأدت إلى خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت ونقل قيادة ياسر عرفات إلى تونس.
هذه الأجواء الدولية (الأميركية والسوفياتية) والإقليمية (العراقية والإيرانية) والعربية (السورية والفلسطينية) أنتجت آنذاك انقسامات سياسية أهلية في لبنان أدت إلى رفض رئيس الجمهورية توقيع معاهدة الصلح (اتفاق 17 مايو/ أيار) وعودة جزئية سورية إلى بلاد الأرز لوقف تداعيات الأزمة التي انفجرت في بيروت. وأدى اجتماع الأزمات في لبنان دفعة واحدة إلى تعطيل الانتخابات الرئاسية للمرة الأولى حين اقترب موعد استحقاقها الدستوري في العام 1988.
منذ تلك اللحظة الزمنية انعطفت التوازنات الأهلية اللبنانية ودخلت بلاد الأرز في سلسلة تجاذبات إقليمية تمثلت آنذاك في صعود المقاومة (حزب الله) وبدء تراجع القوات الإسرائيلية ميدانيا إلى الجنوب اللبناني. هذا التراجع الإسرائيلي جرى في إطارين إقليميين: الأول بدء انسحاب القوات الإيرانية من جنوب العراق وصولا إلى موافقة طهران على القرار الدولي 598 وإنهاء حال الحرب بين البلدين. والثاني عودة دمشق إلى الساحة اللبنانية لتلعب دورها المؤثر على التوازنات الداخلية كما كان عهدها قبل ست سنوات.
عام المفارقة
شكل العام 1988 مفارقة في العهد الرئاسي اللبناني حين فشل مجلس النواب في عقد دورته لانتخاب رئيس في الموعد الدستوري المحدد. وخوفا من الفراغ (الفوضى) قرر الرئيس أمين الجميل تسليم مقاليد السلطة مؤقتا لقائد الجيش آنذاك الجنرال ميشال عون. وجاءت الخطوة لتزيد من الانقسامات اللبنانية فدخلت البلاد في حروب مخيفة أبرزها «حرب التحرير» التي أعلنها الجنرال ضد القوات السورية المنتشرة في لبنان و«حرب الإلغاء» التي قررها الجنرال ضد «القوات اللبنانية» بقيادة سمير جعجع.
أنهكت الانقسامات وما تلاها من حروب إقليمية وأهلية لبنان فاستنزفت قواه وانهار نقده الوطني وتدهور اقتصاده وتقوض عمرانه. فاستدعى الأمر تدخلات دولية وإقليمية معطوفة على رغبة لبنانية فتقرر عقد مؤتمر في الطائف أنتج صيغه دستورية جديدة وزعت الصلاحيات على رئاسات ثلاث (الجمهورية، النيابية، والحكومية) ورفعت أعضاء البرلمان من 99 إلى 128 مقعدا وتساوى عدد نواب المسلمين مع المسيحيين للمرة الأولى منذ تأسيس الكيان في العام 1920 (أيام الانتداب الفرنسي).
«اتفاق الطائف» رفضه الجنرال واستمر يتمسك بالسلطة الرئاسية إلى أكتوبر/ تشرين الأول 1990. آنذاك تغيرت صورة التحالفات الدولية والإقليمية في ضوء تداعيات «أزمة الكويت» وما أنتجته من اختلاط في الأوراق. فسورية آنذاك أيدت التحالف الدولي وتحسنت علاقاتها مع الولايات المتحدة ما أعطى موافقة أميركية (الرئيس جورج بوش الأب) للرئيس السوري بالهجوم على قصر الرئاسة في بعبدا وطرد الجنرال منه وإعادة الحياة الدستورية إلى سابق عهدها.
وهكذا بعد «فراغ رئاسي» دام أكثر من سنتين استقرت الحياة الدستورية في ضوء توازنات قلقة أنتجها «اتفاق الطائف» بسبب المتغيرات التي احدثها في المعادلة الأهلية الداخلية. واستمر هذا الوضع يتجاذب لبنان إلى العام 2004 حين قرر الرئيس اميل لحود بدعم من دمشق تعديل الدستور «لمرة واحدة» ليجدد عهده نصف ولاية (ثلاث سنوات).
أدت خطوة التعديل الدستوري إلى اطلاق شرارة انقسام سياسي محلي انعطف إقليميا ودوليا بصدور القرار 1559. وخلال السنوات الثلاث التي ستنتهي مدتها في الفترة الواقعة بين 25 سبتمبر/ أيلول و25 نوفمبر/ تشرين الثاني شهد لبنان تطورات دراماتيكية بدأت باغتيال الرئيس رفيق الحريري وما أعقبها من عشرات الاغتيالات والتفجيرات، إلى خروج القوات السورية في العام 2005، إلى عدوان «إسرائيل» بدعم أميركي في العام 2006، إلى حرب نهر البارد في الشمال والمخاوف من تداعياتها الأمنية، وصولا الى الانتخابات الفرعية التي جرت في الشهر الجاري من العام 2007.
الآن شارفت عملية التعديل الدستوري على الانتهاء ولايزال المشهد الدولي/ الإقليمي ينتظر تطورات مهمة في الأسابيع المقبلة كما كان عهد لبنان في ظروف سابقة. فالمشهد متشابه ولم يتغير موضوعيا عن تلك التأثيرات الإقليمية والدولية التي شهدتها بلاد الأرز في 1982 (الاجتياح الإسرائيلي) وفي 1988 (بدء وقف الحرب العراقية الإيرانية).
لبنان ينتظر مصيره من الخارج على غرار حصول التوافق الأميركي/ العربي (السوري) في العام 1990 (أزمة الكويت) وأدى إلى حلحلة الاستحقاق الدستوري. فالبلد يراقب تطورات جبهة العراق بين إيران والولايات المتحدة، ويتابع تلك الانقسامات الفلسطينية بين «حماس» و«فتح» في الأراضي المحتلة وخلفيات دعوة جورج بوش الابن إلى «مؤتمر دولي» في الخريف. المشهد الإقليمي الدولي يقرر في النهاية اتجاهات الرياح اللبنانية الدستورية. فالتفاهم أو عدم التوافق بين واشنطن وطهران وكذلك بين «حماس» و«فتح» سيكون لهما انعكاساتهما الأهلية/ السياسية على الساحة وخصوصا أن كل خطوة على الجبهتين العراقية أو الفلسطينية ستترك آثارها على مدى الدور السوري في لبنان ونسبة تأثيره على معادلة اختيار الرئيس البديل.
في العام 2004 أعطى تعديل الدستور الذريعة لانتاج القرار (الكارثة) 1559 الذي وضع البلد تحت سقف التدويل. الآن تتكرر الأزمة في مشهد دولي إقليمي متشابه موضوعيا. فالمسرح لم يتغير في دلالاته وإشاراته ولكنه بدأ يتعدل في توازناته التي ستكون لها انعكاساتها المباشرة على ساحة لبنانية مفتوحة ومكشوفة على تجاذبات تتجاوز حدوده. فالاستقطابات الجديدة إذا تبلورت قريبا في الإطارين العراقي والفلسطيني ستحمل الى اللبنانيين «كلمة السر» وستتعرف القوى المحلية على اسم الرئيس من خلال تلك التداعيات الكبرى التي تخيم على منطقة «الشرق الأوسط».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1814 - الجمعة 24 أغسطس 2007م الموافق 10 شعبان 1428هـ