في بريطانيا، تبرز ملامح رؤية جديدة حيال الوضع في المنطقة، حيث خلصت لجنة الشئون الخارجية في مجلس العموم البريطاني في بيانٍ لها، إلى أن رفض لندن والمجتمع الدولي إجراء حوار مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) يسبّب ضررا أكثر ممّا يسبّب نفعا، وأن عزل قطاع غزة الذي تسيطر عليه حماس، سيعرِّض السلام لمزيد من الخطر. وإلى جانب ذلك، ثمة دعوة من هذه اللجنة للحكومة البريطانية، إلى أن تفكر عاجلا في طرقٍ للحوار السياسي مع عناصر معتدلة داخل حماس، وأن تعمل للانفتاح على سورية من أجل توطيد الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وانتقدت هذه اللجنة تباطؤ لندن في الدعوة إلى وقف مباشر للنار لإنهاء الحرب التي شهدها لبنان الصيف الماضي بين حزب الله و«إسرائيل»، مشيرة إلى أن ذلك أضرّ بسمعة المملكة المتحدة، وداعية الحكومة البريطانية إلى فتح حوار مع النواب المعتدلين في حزب الله.
إننا نتصور أن هذه الملاحظات، توحي بأنّ هذه اللجنة بدأت تتجاوز خطوط السياسة البريطانية التي كانت خاضعة للسياسة الأميركية، بفعل خضوع رئيس الوزراء السابق بلير للرئيس بوش، ما يشي بإمكان التحرك في بريطانيا نحو سياسة واقعية معتدلة مستقلة قد تؤدّي إلى التأثير على سياسة الاتحاد الأوروبي التي كانت الإدارة الأميركية تمارس الضغط عليه في أجواء الحرب الإسرائيلية العدوانية ضد لبنان.
ولقد كانت خشية المسئولين الإسرائيليين من ذلك واضحة، حيث سارع المسئولون الصهاينة إلى تحذير الأوروبيين من محاورة «حماس»، معتبرين أن ذلك يمثّل «خطأ قاتلا»، في محاولة واضحة للتأثير على الاتحاد الأوروبي ومنعه من تعديل سياسته الفلسطينية والعربية.
ولعلّ اللافت أن وزارة الخارجية البريطانية سارعت للردّ على لجنة الشئون الخارجية فيما يخصّ الحرب على لبنان، إذ زعمت أن الحكومة البريطانية عملت بنشاط من أجل وقف النار، وأن كون القتال لم يندلع ثانية يدل على صوابية هذا النهج، ولكننا نلاحظ أنّ حكومة بلير انتظرت - مع أميركا - أن تحقق «إسرائيل» انتصارها على المقاومة مدة ثلاث وثلاثين يوما، فلما رأت أنها لم تستطع تحقيق أهدافها وأهداف اميركا وأوروبا، تدخّلت لاستصدار قرار عن مجلس الأمن الدولي يتحدث عن إيقاف العمليات العسكرية لا عن وقفٍ لإطلاق النار، والذي لم يصدر بطريقة رسمية حتى الآن...
وقد كانت الحكومة البريطانية، ومعها الإدارة الأميركية، تشاهد «إسرائيل» تدمِّر البنية التحتية وتقتل المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ من دون استنكار، بل كانت تشجع «إسرائيل» على الاستمرار، وتفسح في المجال لتدفق الأسلحة والقنابل المتطورة عبر مطار بريطاني، لأنها لا تحترم اللبنانيين، بل تحتقرهم في حياتهم، لأنهم يريدون الحرية لوطنهم...
إن هذه الصحوة البريطانية التي تبقى مخلصة لـ «إسرائيل»، لاتزال تطلب من الشعب الفلسطيني الاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي لبلادهم، من دون أن تعترف لهم بالحرية والاستقلال، ومن دون أن تطلب من «إسرائيل» أن ترسم خطا واضحا لحدودها، لأن المسألة هي الاعتراف بالكيان الصهيوني من غير تحديدٍ لحدوده، وهذا هو الذي جعل الاتحاد الأوروبي يرفض الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية، ويعطل كل المساعدات للفلسطينيين، لأنهم لا يحترمون العرب الذين خضعوا لما يسمى المجتمع الدولي الذي تسيطر عليه أميركا وفرنسا وبريطانيا في مجلس الأمن.
نصائح لتعديل السياسة الأوروبية
إن المشكلة في الإدارات الغربية، أنها تفرض شروطها على العرب والمسلمين كما لو كان لها حقّ التدخل في كل أوضاعهم السياسية والاقتصادية والأمنية، وهذا ما نواجهه في الموقف من المشروع النووي الإيراني الذي لم يستطع الاتحاد الأوروبي - ومعه أميركا - إثبات أن إيران تهدف إلى صنع السلاح النووي، بل كانت المسألة مسألة شكّ تبني عليه عقوباتها، إضافة إلى رفضهم حصول إيران على الخبرة العلمية النووية حتى لو كان ذلك من أجل استخدامها في قضايا الطاقة التي تمثل حاجة لدول المنطقة، حتى إن الدول العربية المتحالفة مع أميركا، ومنها دول الخليج، بدأت تخطط للوصول إلى ذلك، وخصوصا أن الطاقة النفطية قد تنفد في أكثر من دولة في السنوات أو العقود القادمة.
إننا ننصح دول الاتحاد الأوروبي، أن يبتعدوا عن الخضوع لسياسة الإدارة الأميركية، لأن مصلحتهم هي في إيجاد علاقات طبيعية على المستوى الاقتصادي مع دول الشرق الأوسط العربية والإسلامية، ولاسيما أن العلاقات التاريخية مع دول المنطقة كانت علاقات إيجابية لمصلحة أوروبا، على رغم تاريخ الاستعمار الذي انتهى مع الزمن.
مناورات غربية لتضليل الفلسطينيين
ومن جانب آخر، فإنَّ «اسرائيل» لاتزال تواصل عدوانها ومجازرها ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وتقتل المدنيين، وتحاصر اقتصاده وبنيته التحتية، وتواصل الاعتقالات في الضفة، ولا نجد أي استنكار غربي لما يسقط من ضحايا بفعل السلاح الأميركي، إلا بالأسلوب الخجول الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وكذلك لا نجد أيّ استنكار من قِبَل الدول العربية التي بدأت علاقاتها مع الكيان الصهيوني تنطلق نحو مصالحة وصداقة وتخطيط سياسي وأمني مشترك، بحيث باتت المسألة بينهم وبين الدولة العبرية هي في كيفية استخدام أفضل الوسائل لحصار شعوبهم ومنعها من الالتزام بخط المقاومة وحركة الممانعة، ولا ندري، فقد تتطور الأمور إلى أن تدخل «اسرائيل» في الجامعة العربية كعضو فاعل.
وإذا كان البعض يتحدث عن السلام في المنطقة، وعن المؤتمر الذي وعد به الرئيس بوش، فإننا ندعو إلى قراءة حديث رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي، الذي أكد أنه لا يتوقع رؤية أية إنجازات بارزة من المؤتمر الدولي الذي دعا الرئيس الأميركي بوش إلى عقده في الخريف المقبل.
وقد رأت لجنة الشئون الخارجية في مجلس العموم البريطاني، أن خريطة الطريق أصبحت إلى حدّ كبير غير قابلة للتطبيق، على رغم أنه يجب الحفاظ على أهدافها النهائية، ولاسيما أن الشخص الذي عُيّن من أميركا مشرفا على القضية الفلسطينية، هو رئيس وزراء بريطانيا السابق الذي هو الصديق الكبير لـ «إسرائيل» لا للعرب، ويتحدث بعض المسئولين الغربيين في شكل واضح عن أن السلام في فلسطين لن يتحقق في عهد بوش، بل سيبقى إرثا لخليفته في المستقبل... ولذلك، فإن هذا المؤتمر الذي لا يشارك العرب في إقراره، لن يمثّل إلا المزيد من الوقت الضائع الذي اعتادت الدول العربية الموالية لأميركا أن تخضع له من خلال الإدارات الأميركية.
المستقبل للمجاهدين والأحرار
أما الفلسطينيون، فإننا نقول لهم، إن عليكم التخطيط لإعادة الوحدة الوطنية للشعب الفلسطيني، وذلك من خلال الحوار بين جميع أطيافه، لأن ذلك هو الذي يعيد للقضية الفلسطينية قوتها وأصالتها وحركيتها واستقلالها وحريتها. وعلينا أن نؤكد ذلك حتى في الوقت الذي تنطلق الضغوط الإسرائيلية على السلطة الفلسطينية لمنعها من سلوك طريق الحوار مع «حماس».
وإذا كان هناك في الساحة الفلسطينية من يتصور أن أميركا ستحرر لهم أرضهم وتحلّ لهم مشكلتهم، وتعيد إليهم قدسهم، فإن عليهم أن يرجعوا إلى عقولهم ليعرفوا أن أميركا تعمل لحساب «إسرائيل» أمنا واقتصادا وسياسة على حساب كل دول المنطقة، إذ إن الإدارة الأميركية لاتزال تعمل بكل قوة ليكونوا في موقع الدول الضعيفة وتبقى «إسرائيل» الأقوى.
وهذا ما نريد إثارته في وعي الشعوب العربية والإسلامية، كي تبقى في عملية مراقبة لسياسة دولهم الخاضعة للغرب حفاظا على امتيازاتهم وعروشهم وإرث أبنائهم، لأن المستقبل لن يحترم الذين لا يحترمون حرياتهم ومصائرهم، والذين يتركون تقرير مصيرهم للآخرين الذين يعملون للسيطرة على المنطقة كلها في اقتصادها وسياستها وأمنها لحماية مصالحهم الاستراتيجية، وهذا ما نراه في احتلال العراق وأفغانستان، وفي العبث باستقرار سورية ولبنان والصومال والسودان... إن كلمتنا لهؤلاء هي كلمة الإمام الحسين: «كونوا أحرارا في دنياكم».
واشنطن لهزّ استقرار لبنان
أما لبنان، فإن أميركا ومعها أكثر من دولة أوروبية وعربية، لاتزال تمنع أي حلّ واقعي للأزمة المستحكمة التي تسيطر على أوضاعه، حتى إن بعض الدول الأوروبية التي قدمت بعض الحلول، وخططت لإيجاد حالة سياسية مستقرة في لبنان، تراجعت بعد تعرضها لضغوط أميركية مباشرة وغير مباشرة. وهكذا رأينا بعض الدول العربية التي تحدثت عن صيغة للحل، ما لبثت أن غيّرت موقفها انطلاقا من الخطة الأميركية. ومازالت حالات الجدال السياسي تحكم الوطن كله، وتحرّك الأوضاع العامة في اتجاه المتاهات السحيقة التي قد تتطور إلى الفوضى التي خطط لها الرئيس بوش، وربما ينتهي الأمر إلى حكومة ثانية أو فراغ دستوري، ما قد يؤدي إلى المزيد من الأخطار التي قد لا يملك اللبنانيون أية وسيلة للخلاص منها، بفعل التدخلات الدولية التي لا تريد للبنان أن يستقر ويصل إلى شاطئ الأمان
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1813 - الخميس 23 أغسطس 2007م الموافق 09 شعبان 1428هـ