في استطلاع لرأي خبراء في شئون السياسة الخارجية الأميركية أبدت نسبة 14 في المئة مخاوفها من أن تتحول العلاقة الخاصة والمميزة مع «إسرائيل» إلى عائق يعطل مصالح الولايات المتحدة في منطقة «الشرق الأوسط».
هذه النسبة ليست جديدة في اعتبار أن هناك الكثير من الخبراء في السياسة الدولية الأميركية أكدوا مرارا وفي حالات مختلفة رفضهم ربط مصالح الولايات المتحدة العليا بمزاج دولة لا تستطيع البقاء على قيد الحياة من دون دعم ثابت ومساعدات مالية وعسكرية وإعلامية ترهق الموازنة وتشوه سمعة واشنطن في منطقة استراتيجية وحيوية وغنية بالثروات الطبيعية.
مسألة الانحياز الدائم والمطلق والثابت للدولة العبرية تحولت في الفترة الأخيرة إلى مادة نقاش تأسست عليها وجهات نظر داخلية عبرت عن نفسها بمقالات وأبحاث وتحليلات وكتابات أوضحت تلك الجوانب السلبية في موضوع العلاقة مع «إسرائيل». وهناك كتب صدرت أخيرا من مراكز دراسات أكاديمية كانت محسوبة تقليديا إلى جانب تل أبيب أبدت مخاوفها من احتمالات كارثية في حال لم يتم تصحيح العلاقة بين أميركا و»إسرائيل» ووضعها تحت سقف المصالح القومية العليا للولايات المتحدة.
الأفكار هذه لم يكن بإمكانها أن ترى النور إذا لم تكن تعبر عن هواجس واقعية أخذت تثير أسئلة عن معنى تلك العلاقة في وقت أظهرت الوقائع الميدانية وجود ثغرات سلبية تضر بالدولة الأميركية ومصالحها الكبرى في «الشرق الأوسط». فالأفكار ليست مجرد آراء تقال خارج سياق التدهور الكبير الذي أصاب موقع الولايات المتحدة وبدأ يهدد صورتها الدولية ويعطل عليها إمكانات التأثير على قرارات منطقة استراتيجية.
هناك مصلحة تقف وراء هذه الكتابات وهي بالتأكيد ليست مفتعلة ولا تعبر عن وجهات نظر معادية للسامية أو كارهة لليهود، كما تحاول تل أبيب الايحاء بذلك. فالأفكار تنطلق من تحليل للوقائع وقراءة للأرقام وهي جاءت نتاج رصد للتحولات التي أخذت تضغط على كبار الأكاديميين والأساتذة الجامعيين وغيرهم من مفكرين يعملون في مراكز الدراسات والأبحاث. هناك عقول تقف وراء هذا النمط من التفكير. والأفكار المطروحة مبنية على المصلحة العليا والسياسة التي تديرها وتشرف عليها، وهي ليست بالضرورة مرتبطة بنزعة عداء أو كره بقدر ما تعكس رغبة تلح على أعادة التوازن لمواقف دولة كبرى تمتلك مصالح ممتدة ومتشعبة في «الشرق الأوسط» ولا يمكن اختزالها في مسألة واحدة ورؤية قاصرة.
هذا التفكير البراغماتي في العلاقات الدولية وموقع الولايات المتحدة في «الشرق الأوسط» ورؤيتها الاستراتيجية المتوازنة في منطقة حيوية وثرية بدأ يشق طريقه بصعوبة وسط ممانعات تقودها لوبيات (مافيات) الشركات الاحتكارية التي وضعت أمام الدولة الأميركية مجموعة حواجز تمنع عنها إمكانات توسيع وتنويع شبكة علاقاتها التي تضمن مصالحها من التراجع أو التفكك أو الانهيار.
المصلحة الأميركية العليا بدأت تضغط على الإدارة الحالية لاعادة النظر في خطواتها أو أنها على الأقل أخذت تنصح الرئيس جورج بوش بتوسيع حلقة التفكير حتى تكون الرؤية العامة منسجمة مع الاستراتيجية الكبرى. إلا أن حدود التأثير لاتزال حتى الآن أقل من تلك النسبة المطلوبة للتعديل والتغيير.
هناك إذا إشكالية لاتزال تعطل على الإدارة عملية تدوير المصالح وتكييفها لتتوازن العلاقة بين سياسة تقليدية داعمة لـ «إسرائيل» في كل الحالات والأجواء وبين مصالح ثابتة لا تستطيع التخلي عن مواقعها لأنها تمس أمنها القومي وتزعزع استقرار اقتصادها الذي يعتمد على ثروات المنطقة.
الايديولوجيا والمصلحة
هذه الإشكالية بين الايديولوجية والمصلحة طرحت مرارا أسئلة تتعلق بشأن العلاقة الغريبة بين الولايات المتحدة والدولة العبرية؟
رئيس الحكومة الإسرائيلي السابق ارييل شارون رد في سجال حصل في تسعينات القرن الماضي على رأي أميركي اعترض على الكلفة السنوية التي تدفعها الولايات المتحدة لدعم «إسرائيل». فشارون أكد أن واشنطن هي الطرف الرابح في العلاقة وأن ما تدفعه من مال وترسله من سلاح يشكل أقل من 40 في المئة من قيمة الدور الذي تلعبه «إسرائيل» في المنطقة.
زعيم «الليكود» السابق يرى أن عشرات المليارات من الدولارات التي دفعتها أميركا لدولة «إسرائيل» خلال العقود الأربعة الأخيرة لا تساوي الثمن الحقيقي لأن تل أبيب وفرت على واشنطن عشرات المليارات في اعتبار أنها ساهمت في كسر أو تعطيل القوى العربية من تشكيل مركز ضغط ضد الولايات المتحدة في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات.
رأي شارون الذي صدر في التسعينات ردا على دعوات تطالب بإعادة النظر في المعونات والمساعدات الأميركية يكشف عن وجهتي نظر: الأولى تعتقد أن التحالف مع «إسرائيل» غير مكلف اقتصاديا ومردوده السياسي أعلى من تلك المليارات. الثانية تعتقد أن التحالف أدى إلى تسجيل خسائر لا تقدر بثمن بسبب المردود السلبي الذي أنتج تكتلات سياسية معادية للولايات المتحدة وتهدد مصالحها الآن وفي المستقبل.
السجال التسعيني يختلف نسبيا عن السجال الحالي. في التسعينات ظهرت قراءات استراتيجية تحدثت عن نهاية «الفكرة القومية العربية» وأيضا أشارت إلى بدء تراجع الموقع الإقليمي لدور «إسرائيل» في السياسة الأميركية في «الشرق الأوسط». تأسس السجال المذكور على نظرية «الأصيل» و»الوكيل» وبناء على قرار جورج بوش (الأب) بإرسال قوات أميركية إلى المنطقة بذريعة المساعدة على «تحرير الكويت». فالقرار الذي اتخذه بوش الأب آنذاك قلب المعادلة إذ أرسل اشارات سياسية تؤكد أن «إسرائيل» لم تعد منذ تلك اللحظة تلك القوة الإقليمية القادرة على حماية المصالح الأميركية أو القيام بمهمات كبرى تحتاج إلى إمكانات من نوع التدخل العسكري الذي استطاعت واشنطن حشده في المنطقة.
المشهد الإقليمي بدأ يتغير منذ مطلع تسعينات القرن الماضي إذ أخذت «إسرائيل» تغيب عن لعب دورها التقليدي (الوكيل) لمصلحة قوة كبرى تملك إمكانات وقدرات ووسائل كافية لكسر معادلات أو تحطيم دول مركزية في دائرة «الشرق الأوسط».
حضور الأصيل (الولايات المتحدة) كان خطوة في سياق تبدل المشهد الإقليمي. إذ بعد العام 1990 لم تعد أميركا بحاجة لـ «إسرائيل» كما كان حالها في الفترات والعقود السابقة. بل أصبحت «إسرائيل» بحاجة للولايات المتحدة لمساعدتها في كسر المعادلات وتحطيم قدرات قوى إقليمية مركزية كما حصل مع العراق في 1991 وثم في العام 2003.
نظرية «الوكالة الإقليمية» تعرضت فعلا للاهتزاز السياسي وظهرت «إسرائيل» في المشهد الأميركي العسكري في المنطقة وكأنها دولة ثقيلة الظل وغير لازمة لسبب واضح وهو أن وظيفتها التقليدية تقلصت إلى حدود دنيا تقتصر على خوض مواجهات محدودة على الجبهة اللبنانية كما حصل في العامين 1993 و1996 وانتهى الأمر بخروجها من الجنوب في العام 2000.
انتشار «الأصيل» في المنطقة ونجاحه في تحطيم دولة العراق عزز نظرية الامتناع عن مواصلة الدعم المطلق لدولة «الوكيل الإقليمي». الا أن أصحاب هذه النظرية تعرضوا لمواجهات وردود فعل غاضبة كتلك التي أطلقها شارون لمنع هذا الرأي السياسي من الامتداد.
الآن عاد النقاش من جديد في ضوء الوقائع التي افرزها العدوان الأميركي على العراق. إلا أن السجال الحالي يختلف في خلفيته السياسية عن السابق. فهو يعتمد على وجهتي نظر. الأولى تطالب بإعادة احياء الوكالة الإقليمية بعد ذاك العدوان الذي ارتكب ضد لبنان في الصيف الماضي.
والثانية تطالب بتحديث الوظيفة الإقليمية وتطويرها إلى درجة «الشراكة» بناء على تلك النتائج الميدانية التي اسفرت عنها التجربة الأميركية في العراق.
اعادة تجديد الوكالة الإقليمية جاء في ضوء التفكير الذي أخذت تتجه إليه الإدارة الأميركية. فإذا كانت واشنطن (الأصيل) تريد الانسحاب لا بد لها من العودة إلى السياسة التقليدية. وإذا أرادت اعادة الانتشار لا بد لها من تحسين شروط «الوكالة» ونقلها إلى طور الشراكة.
هذه الآراء التي أخذت تشق طريقها بعد العدوان على لبنان وإعلان واشنطن رفع دعمها لتل أبيب بنسبة 25 في المئة سنويا ولمدة عشر سنوات أثار قلق خبراء في السياسة الأميركية الدولية. فهؤلاء تدخلوا للقول ان مصلحة الولايات المتحدة باتت تحتاج قراءة أخرى للعلاقات الإقليمية في توازنات «الشرق الأوسط». فهل ينجح هذا الرأي في تصويب اتجاهات أميركا في المنطقة أم أنه مجرد اجتهاد بسيط يعتمد على عينة صغيرة لا مكان لها في إدارة تسيطر عليها ايديولوجية متطرفة في دعم تل أبيب؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1812 - الأربعاء 22 أغسطس 2007م الموافق 08 شعبان 1428هـ