في حال قررت إدارة جورج بوش جدولة الانسحاب من العراق في إطار خطة مبرمجة على خطوات في السنة المقبلة، ما هي المرتكزات التي ستعتمدها واشنطن لإعادة تأسيس النظام الاقليمي في المنطقة العربية - الإسلامية؟.
النظام البديل سيكون مدار بحث لأنه يرجح أن يتكفل بالمهمات المطلوبة لحماية المصالح الأميركية ودور الولايات المتحدة في دائرة جغرافية استراتيجية وحيوية وغنية بالثروات الطبيعية.
هناك احتمالات كثيرة منها ما يتصل مباشرة بطبيعة الانسحاب وحجمه وسرعته، ومنها يتعلق بالبدائل الاقليمية وتلك القوى القادرة على حماية أمن النفط وأمن «إسرائيل» وعدم إحداث الضرر بالمصالح العليا للدولة الأميركية.
طبيعة الانسحاب مهمة وهي تحدد شكل العلاقة مع القوى الاقليمية في المنطقة. فإذا كان الانسحاب هرولة فمعنى ذلك أن الولايات المتحدة قررت مغادرة العراق عشوائيا تاركة القرار للقوى المحلية وغير عابئة بالنتائج السلبية المترتبة على تلك الفراغات الأمنية.
أما إذا كان الانسحاب مبرمج الخطوات واقرب إلى إعادة الانتشار وتوزيع القوات وتجميعها فمعنى الأمر أن واشنطن تناور وتعمل على تنظيم قواها وتثبيتها بسلسلة توافقات محلية وتفاهمات اقليمية تضمن وجودها وتضبط دورها في إطار تكتيك حماية المصالح العليا.
طبيعة الانسحاب ترتبط إلى حد كبير بالبدائل الاقليمية والادوار المحتمل أن توكل للقوى القادرة على حماية الآبار والحقول وخطوط الامداد والمواصلات، مضافا إليها ضمان أمن «إسرائيل» وموقعها الخاص في المعادلة الاقليمية.
إدارة بوش إذا أمام استحقاق مفصلي يمكن مراقبته والاطلاع على خطوطه العريضة من خلال متابعة ملفات ساخنة مرتبطة بالموضوع العراقي على أكثر من صعيد. مسألة العراق تحتل موقع الأولوية في السياسة الأميركية وستتضح الكثير من معالمها العسكرية واللوجستية في «تقرير سبتمبر» وما يعقبه من ارتدادات وتداعيات.
إلى جانب المسألة العراقية هناك ملفات ساخنة تمتد من إيران (الملف النووي) ولبنان (انتخاب رئيس للجمهورية) وفلسطين (المؤتمر الدولي في الخريف). هذه الملفات ساخنة ولكنها تحتل مواقع أقل أهمية في الاستراتيجية الأميركية الراهنة من موضوع العراق. الملف النووي مهم ولكنه يحتل الموقع الأول في السياسة الدولية. كذلك الملف الفلسطيني الذي يعتبر قضية العرب المركزية. بينما لبنان فانه بات ساحة مفتوحة ومكشوفة للتجاذبات الاقليمية والدولية وبالتالي فان الاستحقاقات التي تنتظره محكومة إلى حد كبير بتلك التفاهمات الاقليمية المتصلة بالموضوع العراقي والملف الإيراني والمسألة الفلسطينية وأمن دولة «إسرائيل».
ملفات سبتمبر
كل هذه الملفات يرجح أن تتبلور صورها وتكشف بعض أوراقها في شهر سبتمبر/ أيلول المقبل. «تقرير سبتمبر» بشأن الانسحاب من العراق يرجح أن يصدر بعد ثلاثة أسابيع من الآن وبناء عليه ستتضح الكثير من معالم الطريق الأميركي في بلاد الرافدين. الملف النووي الإيراني (وقف تخصيب اليورانيوم) يرجح أن تتوضح ابعاده وتكشف بعض أوراقه في الأسبوعين المقبلين وتحديدا بعد أن تعقد «الجلسة الثالثة» في سبتمبر المقبل لوضع اللمسات الأخيرة على آلية الاتفاق التي توافقت عليها «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» مع «المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني». الانتخابات الرئاسية اللبنانية وما تعنيه من تداخلات وتدخلات دولية واقليمية ستتوضح خطوطها العريضة في 25 سبتمبر المقبل.
الموضوع الفلسطيني هو الأعقد والأصعب نظرا الى تداخل أوراقه المزمنة التي تشمل الاحتلال والعودة والقدس والأراضي العربية المحتلة (الجولان ومرتفعات شبعا وكفر شوبا) وضمان قيام «دولة قابلة للحياة» وهدم «جدار الفصل العنصري» وتفكيك المستوطنات وغيرها من زوايا أمنية فلسطينية واقليمية.
الملف الفلسطيني يرجح أن يتأخر حله النهائي كالعادة. فهذا الموضوع متشعب الأوجه لأنه يرتكز على مجموعة نقاط متضاربة تتصل بأمن «إسرائيل» وحرص الولايات المتحدة على تزويدها بالأسلحة المتطورة لضمان تفوقها على الدول العربية مجتمعة. وبسبب هذه الخصوصية التي تربط أميركا بـ «إسرائيل» يرجح ألا يتوصل «المؤتمر الدولي» إلى نتائج تذكر باعتبار أن الموضوع يتجاوز حدود فلسطين الجغرافية والتاريخية ويشمل الكثير من النقاط المتداخلة دوليا واقليميا وأمنيا.
لكن مفاوضات المسألة الفلسطينية هذه المرة تختلف في جوهرها السياسي عن تلك التي جرت بشأنها في فترات سابقة. في المراحل السابقة كان البحث يتم في صيغ منفصلة إلى حد ما عن المحيط العربي والتطورات الجارية في الأقاليم. في المرحلة الراهنة هناك تداخلات بين الملفات ولم تعد الولايات المتحدة تمتلك القدرة على الفصل الكامل بين الحدث الفلسطيني والتداعيات الحاصلة في الدول المجاورة وصولا إلى العراق وإيران. وربما لهذا السبب ارتأت الإدارة الأميركية تأجيل موعد البحث في المسألة الفلسطينية إلى الخريف المقبل. أي بعد الانتهاء من تلك الاستحقاقات الثلاثة: ترتيب خطة الانسحاب من العراق، توضيح صيغة التفاهم بشأن الملف النووي الإيراني، ترسيم معالم الرئيس المقبل لجمهورية لبنان.
الاستحقاقات الاقليمية الثلاثة يرجح أن تكتمل شروط انضاجها واخراجها للسوق الدولية في شهر سبتمبر وفي ضوء نتائج تلك الاستحقاقات يمكن البناء عليها للتقدم بوضوح نحو أوراق الملف الفلسطيني وما يعنيه من تراكمات زمنية وامتدادات تتجاوز حدود أرض كنعان.
كل هذه المتغيرات المتوقعة وما ستنتجه من معطيات محتملة تعيد طرح السؤال: ما هي المرتكزات التي ستعتمدها واشنطن لإعادة تأسيس النظام الاقليمي في منطقة «الشرق الأوسط»؟.
هناك تصورات مرجحة على هذا الصعيد يمكن اختزالها بثلاث نقاط:
الأولى: تجديد الوكالة الاقليمية لدولة «إسرائيل» وإعادة تنشيط وظائفها العسكرية بعد الشلل الذي اصيبت به في العقدين الأخيرين. وهذا يعني أن الولايات المتحدة قررت مغادرة المنطقة والعودة إلى سياسة الاعتماد على وكيل مركزي وحيد ينشط عند الطلب دفاعا عن مصالحها حين تتعرض للخطر.
الثانية: تطوير الوكالة «الإسرائيلية» الاقليمية وإعادة بعثها بقوة ورفعها إلى درجة «الشريك» الاستراتيجي في مشروع الولايات المتحدة التقويضي ضد دول منطقة «الشرق الأوسط». وهذا الأمر يعني أن الولايات المتحدة صرفت النظر عن الانسحاب وقررت البقاء مؤقتا لترتيب مصالحها العليا في إطار خطة شاملة تلعب فيها تل أبيب دور الشريك لا الوكيل.
الثالثة: تنويع الوكلاء واعتماد خطة تتضمن توزيع الاعتمادات الاقليمية على أكثر من قوة واحدة مع ترجيح كفة «إسرائيل» والابقاء عليها في رأس الأولويات. ويعني هذا الأمر أن إدارة بوش بدأت العودة إلى نظرية الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر الأمنية التي اعتمدت وكالات اقليمية غير حصرية تلعب أدوارا فرعية إلى جانب دور «إسرائيل» المركزي في المحيط العربي لفلسطين.
صورة «النظام الاقليمي» الجديد أو البديل في دائرة «الشرق الأوسط» بدأت معالمها بالارتسام ميدانيا ولكنها تحتاج إلى وقت للتبلور وربما يعمل بها لاحقا من دون ضرورة للإعلان عنها رسميا.
المسألة لم تنته وهي لاتزال في طور «الطبخ» ويرجح أن يكون شهر سبتمبر الحد الفاصل في توضيح صورة «نظام اقليمي» لا بد من التوافق عليه في حال قررت إدارة بوش الانسحاب من المنطقة أو إعادة الانتشار.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1811 - الثلثاء 21 أغسطس 2007م الموافق 07 شعبان 1428هـ