لا أعتقد أن أي دين من الأديان، أو أي قانون من قوانين البشر إلا وجعل الحديث عن العدل من أهم مبادئه وأقوى مرتكزاته، وطالب أتباعه بالأخذ بكل الوسائل التي تحقق العدل للمجتمع بكل فئاته والابتعاد عن الظلم مهما كانت الأسباب الداعية إليه...
بل أن كثيرا من علماء الاجتماع والسياسة - بمفهومها العام - جعلوا قوة الأمة واستمرارها رهن بتحقيق حكامها للعدالة بين الناس ومن دون ذلك يستحيل بقاء الأمة وحكامها فترة طويلة لأن عوامل الضعف التي يسببها الظلم تنخر في جسد الأمة حتى تقتله وبذلك تكون نهايتها...
ولعل ابن خلدون كان من أوائل علماء الاجتماع العرب الذين تحدثوا عن هذا الموضوع بإسهاب شديد في مقدمته المشهورة فجعل قيام الدول وسقوطها مرهون بعدالة حكامها وابتعادهم عن الفساد أو وقوعهم فيه حيث يؤدي ذلك إلى ضعف الدولة وزوالها...
ونظرا لأهمية العدل في المنظور الإسلامي فقد جاء ذكر «العدل» ومشتقاته في مواضع كثيرة في القرآن الكريم وكذلك في الحديث الشريف، وقد أمر الإسلام أتباعه أن يكونوا عادلين مع الناس جميعا حتى مع من يناصبونهم العداء، يقول القرآن الكريم: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى»(المائدة:8). كما أمرهم بتحقيق العدل المطلق في مجتمعاتهم، فقال لهم: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان»( النحل:90)
وضرب الرسول الكريم ومن سار على نهجه أروع الأمثلة في العدل، فقد طالب المسلمين في عهده أن يأخذوا حقهم كاملا منه - مهما كان نوع هذا الحق - لأنه - عليه السلام - لا يريد أن يقابل الله وقد ظلم أحدا من الناس.
ومعروف أن عليا - رضي الله عنه - رأى درعه عند يهودي كان قد سرقها، ومع أنه كان خليفة المسلمين واليهودي أحد مواطني الدولة وعلى غير دينه إلا أنه مع كل هذا لم يأمر بأخذ درعه من اليهودي بالقوة - مع قدرته على ذلك - ولم يأمر بسجن اليهودي والإقتصاص منه، وهو - أيضا - قادر على ذلك وما كان أحد سيلومه أو يشك في تصرفه إلا أنه آثر أن يكون عادلا فلجأ إلى القاضي - والقضاء العادل هو الذي ينصف الناس بعضهم من البعض الآخر - وكانت المفاجأة هي حكم القاضي بأن الدرع لليهودي وليست للإمام علي لأن الدلائل المادية كانت في صالح اليهودي، وما كان القاضي ليحكم بعلمه وما كان له أيضا أن يمالىء الخليفة ضد يهودي من سائر مواطني الدولة فكان حكمه عادلا...
وكانت المفاجأة الثانية هي أن اليهودي وقد أخذه العجب من كل ما كان يحدث أمامه من غرائب أعلن أن الدرع للإمام علي وأعلن أنه لم ير خليفة أغرب من هذا الخليفة ولا قاضيا أعدل من هذا القاضي فأعلن إسلامه فكافأه الخليفة بإهدائه الدرع... وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينام أحيانا تحت ظل شجرة في أحد شوارع المدينة وهو خليفة المسلمين، وعندما قدم عليه رسول ملك فارس وسأل عنه دله الناس عليه، فلما رآه على تلك الحالة وليس حوله حراس يقومون على حراسته قال: «عدلت فأمنت فنمت ياعمر» إن العدل - وحده - جعل عمر ينام وحيدا بين الناس لا يخشى إلا الله لأنه يعرف أن الناس جميعا يقفون بكل قوة مع الحاكم العادل... وهكذا يحدثنا التاريخ عن كل حاكم عادل...
وعندما نتجاوز التاريخ سريعا نقف على قوانين الدولة الوضعية التي لا تستمد قوانينها من الشرائع السماوية نجد أن أقوى الدول وأسرعها نموا هي الدول التي تطبق العدالة على رعاياها جميعا بمن فيهم حكام تلك الدول سواء بسواء لا فرق أمام العدالة بين حاكم ومحكوم...
وأذكر يوم أن كنت طالبا في الثانوية العامة أن أحد أساتذتي قال لي ولزملائي في الفصل: أن روسيا ستسقط قريبا وقبل أميركا بكثير، وكانت روسيا - آنذاك - في أوج قوتها. وعندما سألته عن سبب هذا التوقع قال: إن هذه الدولة لا تطبق العدالة بين رعاياها وأن أنظمتها لا تتوافق مع طبيعة البشر وهذا سيعجل بزوالها على عكس أنظمة أميركا التي تعطي العدالة جانبا مهما في قوانينها... ولعل المحاكمة الشهيرة للرئيس «كلينتون» تؤيد ما ذهب إليه ذلك الأستاذ، بل ولعل ما يفعله كل أميركي من حرصه الشديد على فعل كل ما ينفع بلده عندما يكون خارجها ومن دون تكليف من أحد دليل آخر على حب الأميركان لبلدهم، ولو سئل أحدهم عن سر إخلاصه لبلده لقال لك أن العدل الذي يجده في بلده هو الدافع وراء كل ما يفعله... ولنا أن نقارن بين فعل الأميركان وفعل بعض المواطنين العرب لنعرف السبب في البون الشاسع بين الموقفين...
و»إسرائيل» تمارس هي الآخرى العدل مع رعايها - فقط - وهذا في اعتقادي سر تفوقها على العرب، لأن العدل يقضي على الظلم ويوحد الناس جميعا مع حكامهم، ولعلنا لم ننسى بعد محاكمة رئيس الدولة على تحرشاته الجنسية وإيقافه عن عمله، وكذلك محاكمة رئيس وزرائها وبعض قادة الجيش على تقصيرهم في الحرب الآخيرة ضد لبنان...
وأمام هذه المحاكمات - على التقصير فقط - نتذكر الهزائم العربية الكثيرة - هنا وهناك - ونتذكر العبث بمقدرات الأمة ومع هذا كله تصبح كل تلك الهزائم والجرائم انتصارات للحكام واحتفالات صاخبة تقيمها الشعوب لهم ومن أقواتها التي لا تحصل عليها إلا بشق الأنفس...
عدالة «إسرائيل» جعلتها تستخف بكل دول المنطقة لأنها تعرف حجم الفساد الذي يدور في هذه المنطقة وتعرف أيضا أن المواطنة الحقة لا تكاد تظهر بين أبنائها ولهذا فالبعض يواليها والبعض يوالي غيرها على حساب بلاده. ولو كان هناك عدل لما حصل شيء من هذا على الإطلاق...
القوانين وحدها لا تحقق العدالة بين الناس، فهذه القوانين موجودة في كل الدول، وانظر إلى بعض دول إفريقيا أو آسيا وانظر إلى قوانينها وإلى كيفية تطبيق هذه القوانين وستعرف سبب ضعفها وفقر أهلها وتخلفهم الشديد...
نريد مع القانون أن يطبقه كل مسئول عربي على نفسه أولا ليفعل ذلك من بعده كل المسئولين في بلده ومن دون ذلك سيصبح كل قانون لا يساوي الحبر الذي كتب به، وسيبقى التخلف أمرا واقعا لا يمكن تجاوزه ما دام العدل غائبا والظلم حاضرا...
العدل مطلوب في كل شيء، في التعليم والصحة وتقسيم المناصب وفي كل شيء ومع كل المواطنين، وهذا النوع من العدل هو الذي يحمي الدولة ويبقيها ويطيل أمدها...
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 1810 - الإثنين 20 أغسطس 2007م الموافق 06 شعبان 1428هـ