تروي كتب السير، أنه في السنة السابعة عشرة للهجرة، كتب الخليفة عمر إلى عامله على البصرة أبي موسى الأشعري كتابا ذكر فيه شهر شعبان، فردّ الأشعري «... فما ندري أهو شعبان الذي نحن فيه أم الماضي». فجمع الخليفة الصحابة وأوضح لهم الحاجة لوضع تاريخ للمسلمين. وكانت قريش تؤرّخ بعام الفيل، وظلّ المسلمون كذلك حتى أخذوا يؤرّخون بما بين الهجرة ووفاة النبي (ص)، واختاروا لكل سنة اسما مخصوصا يميّزها مثل عام الأذان (الأولى) والبراءة (التاسعة) والوداع (العاشرة).
من هنا، أخذ الصحابة يبحثون عن واقعة تصلح بداية للتاريخ المقترح فذكروا ولادة النبي (ص) ومبعثه ووفاته، لكن الإمام علي أشار بجعله يوم الهجرة، فراقت الفكرة للخليفة والصحابة فأرّخوا بها، واختاروا شهر محرم مطلعا للعام الهجري.
الصحابة وهم يتشاورون في أمرهم، توقّفوا أمام أهم المحطات في مسيرة الإسلام: ولادة النبي ومبعثه وهجرته، وهي محطاتٌ مازال المسلمون يقدّرونها ويحتفلون بها، إلاّ بعض الجهلة الذين لفظهم الزمان بعد 1428 سنة، ممن لم يقرأوا تاريخ الإسلام، فكل شيء عندهم «بدعة»، و«ضلالة»، وشرك بالله! وهم لا يعترفون إلاّ بما يدور في أدمغتهم من أفكار وتصورات، يريدون أن يفرضوها على الشعوب والدول لإلغاء المناسبات الدينية والاحتفال بالمحطات الروحية التي تحيي النفوس وتمثّل ينابيع تتدفق بالخير والهدى والتذكير بما ينفع الناس.
الشيخ عبداللطيف المحمود، في مقابلةٍ صحافيةٍ قبل أسابيع، لم يخف غبطته لإخوانه الشيعة لاهتمامهم بالمناسبات الدينية، وهو ما يفتقده الشارع السني حسبما أشار. وهو أمرٌ واقع، فبعيدا عن السياسة والتسييس، فإن الاجتماع في ظلال المسجد أو المأتم ليس لتزجية الفراغ، بل هو مدرسةٌ للتلاقي والتآخي وتعزيز التواصل بين أبناء المجتمع، وهو من أحوج ما يحتاج إليه المسلمون اليوم، في ظلّ هذه الموجة المادية الأنانية الكاسحة.
من هنا تأتي خطورة الدعوة لإلغاء الاحتفال بهذه المناسبات الدينية، بحججٍ سخيفةٍ أوهى من خيوط العنكبوت، من قبيل التحجّج بأنها «تبذير للمال»، بينما تعمى أعينهم عن الأموال التي تبذّر على الفضائيات التي لا يشاهدها أحد، وعلى «الفنانات» والمطربات، وعلى المدّاحين والشعراء الكذّابين!
الاجتماع البشري يمد الجسور، ويعزّز العلاقات، ويشيع الألفة بين الناس، وهو من بعض ثمار إحياء المناسبات، وعندما يدعو بعض المتطرفين إلى إلغائها فإنه يعمل على تجفيف منابع الألفة والتلاقي والرحمة بين الناس.
المسألة ليست مجرد آراء جامدة وعقول متحجرة، بل هي فكر إلغائي متطرف، يبدأ في تخطئة الطوائف والمذاهب الإسلامية، والتشكيك في معتقدات المسلمين وإخراجهم من دينهم، لينتهي هذا الفكر الإقصائي إلى استباحة دماء المسلمين، وقتل الأبرياء في شوارع العواصم والمدن العربية، من بغداد والموصل وكركوك... إلى الرباط والقاهرة والجزائر والرياض وصنعاء وشرم الشيخ. فالمسألة أكبر من نائبٍ أو «شيخ» منفلتٍ من كل عقلٍ وعقال، بل الخطر في هذا الدور الذي يؤسّس لفرض وصايةٍ على المجتمع، وخلق رأي عام مغرّر به، يبدأ تلميحا وينتهي تلويحا بمطالبة الدولة بإيقاف الاحتفال بالمناسبات الإسلامية الكبرى تحت حجة «البدع» و«الشرك بالله».
قبل 1411 عاما... جلس كبار الصحابة يتشاورون في تحديد أهم الوقائع لبداية التاريخ الإسلامي، واليوم يشحذ بعض الجهلة الصغار عقولهم فتلد مقترحات بحذف هذه المحطات التاريخية نفسها من ذاكرة المسلمين... ألا ساء ما يزرون.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1809 - الأحد 19 أغسطس 2007م الموافق 05 شعبان 1428هـ