لا يختلف أي فرد بشأن ما يكرسه التمييز الطائفي إذا ما تمت ممارسته ضمن نطاق الوزارات ومؤسسات الدولة أو أية مؤسسة ومنشأة وظيفية، خصوصا إذا ما اصطبغت بسوداويته وغمامتها البنى التشريعية والقيم العرفية في المجتمع من أحاسيس الانتقاص والدونية، ومن زرع وبث للأحقاد الطائفية واستزراع للهواجس الانفصالية والانشطارية المضمرة والمدمرة بتهديدها للاستقرار الاجتماعي والوطني.
بل إن مثل تلك الآثار السيكولوجية والهواجس السقيمة إذا ما تسنى لها المزيد من التناسل المتشعب والتفاعل والاغتذاء من لقيمات الإحباط والخيبة اليومية في ظل الوجود المفتقد لتنفيذ فكرة المواطنة الدستورية والمساواة في الحقوق والواجبات، فإنه لكفيل وحده بنسف الثقة الوطنية، وتقليص سقفها المجتمعي إلى زاوية الجماعة الطائفية والحزب الطائفي الحاد المنوط به حماية مصالح الطائفة وأبنائها أولا وآخرا بالأدوات البرلمانية بغض النظر عن المقاييس والمعايير كافة!
وإن كان كاتب هذه السطور قد سبق له وأن ذاق من منهل التمييز الطائفي وعلقمه في مراحل عمرية مختلفة مرة بصفته «سنيا» والمرة الأخرى بصفته «شيعيا» في حالات مختلفة ظرفيا وقد تكون غير قابلة للتصديق، إلا أن ما يفوق بشاعة التمييز الطائفي تلك وتحطيم الآمال ووأد الأحلام النهوضية الطرية هو أن يبذر هذا الفعل الآثم والمجرم بحق المجتمع والإنسانية بذراته الانفجارية السوداء في أنفس ضحاياه المدموغين والمختومين ببشاعته ما يجعلهم عرضة دائما للتنفيس عن أحقادهم والأخذ بثأرهم الجنوني ممن مارس ضدهم يوما هذا التمييز بغض النظر عن انتمائهم بين الحقيقة الواقعية أو الافتراض الخيالي لدى الجاني، ومثل دوائر النقمات ليست أبدا بالدوائر الصلبة أو القارة وإنما هي كالصهير «الماجما» المتواصل والمستمرئ في انسكابه وتذويبه لكل ما يخضع له من عناصر فردية ومجتمعية بريئة وغير متورطة سرعان ما تجد نفسها ضمن البوتقة الجهنمية ذاتها في ليلة وضحاها، فمثل هذه الممارسة الإجرامية لا تعرف النسب والتناسب أو الدقة «الديجيتالية- الرقمية» بل هي في توق مستمر للإيقاع بالمزيد من الضحايا!
وفي اعتقادي أنه وعلى رغم من أهمية التعرف على مصدر وجذر ومصب هذا التمييز لتوجيه التهمة الكبرى له وإدانته وطنيا إلا أن هذا السؤال قد يصبح طرحه لوحده وبالا على الصحة العامة للوطن والمواطن، ومصدرا للرعشة الفكرية السقيمة دائما التي تحرف البوصلة السياسية والاجتماعية في عكس المصلحة العامة والمصلحة الخاصة للجماعة الطائفية التي لا يمكن أن تنل مصلحتها كاملة بغمط حقوق ومصالح فئات وطوائف أخرى تشاطرها كيان الدولة والوطن لا كعكته!
فسرعان ما يصبح السؤال كــ «من الذي أشعل الشرارة الطائفية الأولى؟! من الذي بدأ في التمييز الطائفي؟!» ضمن الأسئلة الجدلية التي تجلب من الأضرار أكثر من المنافع، وتهدم وتردم طائفيا أكثر من كونها تمثل تآلفا وتقاربا وطنيا إذا ما أصبحت أسيرة لحلقة «البيضة والدجاجة ... أيهما حل أولا؟!» المعهودة والتي تناولناها في مقالاتنا السابقة، وأنا أرى بأن ما يشرعن لهذا التمييز والتحاصص أيا كان شكله ونوعه، ويطيل من عمره ويجعل منه سنة الحياة الدنيا وناموسا لإكمال عناصر المعادلة «الوطنية» والتوفيق بينها بــ «الحكمة» والتوصل إلى «كلمة سواء» هو أن تنمو وتتفيأ وتغتنم في ظل أكناف التمييز الطائفي آليات تأويل وقراءة طائفية متعددة تخص كل جماعة وقدرتها على الابتسار الطائفي المتحقق أو المتخيل لكل الثوابت والمتغيرات في محيط المشهد المجتمعي والسياسي، فيكون كل إجراء وتحرك وخطو في اتجاه معين بملامح فارقة مدعاة للتشكيك والاتهام والتخوين الطائفي والتنديد به علنا وهي حالة مرضية عامة للأسف تغلغلت في مفاصل الوعي والنسيج السيكولوجي الجماعي بكل ما يحفل به من تراكمات لهواجس وعقد عصبية!
فأصبحت تلك الآليات والقراءات الطائفية التي لم تستثن عامة أو نخبا على استعداد دائم لافتداء هذا التمييز والتمايز الطائفي بدم عقولها وماء هواجسها المتعللة طائفيا سواء بقصد أم من دونه من مواكبة لسيناريوهات التمييز والتشطير العمودي للمجتمع، والأدهى أن يكون النفخ السياسي في الأبواق و»القِرَبْ» الطائفية هو طاقة الإطراب وتحقيق التناغم والانسجام في الحراك الاجتماعي السياسي في الوطن!
فما مناسبة كل هذا الكلام النظري والتحذيرات والإنذارات التي تغيرت ألوانها من فرط تكرارها على رغم شدة خطورتها على أي توافق وطني ومصالحة محتملة؟!
المناسبة هي ما أصبح عليه حال الفولكلور البرلماني الشعبي وهو في أردأ أوضاعه وأكثرها ابتذالا في تعامله بما يملكه من سلطة وصلاحية متواضعة فعليا أو متنامية وجاهيا مع الأزمات المجتمعية والسياسية المتواترة، والتي أصبح هذا الفولكلور جزءا منها، سواء ما يتعلق منها في جانب بتمييز طائفي ومحاصصة طائفية حقيقية، أو ترجمة تفاعلية لآليات تأويل سياسي طائفي، وسعي لزيادة المكاسب السياسية وتعزيز الأرصدة والمكانة الشعبية لدى الجماعة الطائفية في ظل ما أتى متوافقا مع قسمة برلمانية طائفية «موالاة سنية - معارضة شيعية» منقطعة النظير في التاريخ البحريني المعاصر!
فهذا البرلمان الذي عول عليه الشعب كثيرأ في معالجته أزماته وقضاياه الوطنية وفي المساهمة باستنهاضه معيشيا وسياسيا مرجح لأن يكون جزا من الأزمة والإشكال الطائفي السياسي في هذا المجتمع بدلا من أن يترقى ويقدم الحلول المفتاحية لها على الأقل بالتزام الصمت الوطني حيال الهذر واللغو الطائفي المباح مجتمعيا وسياسيا في بحريننا، وخصوصا أن هذه الدورة البرلمانية تشهد مشاركة قوى المعارضة بعد مقاطعة للدخول في العملية السياسية، وجماهير الوطن بانتظار المزيد من ما ستحققه لهم مشاركة «الكتلة الأكبر» على وجه التحديد من دخول البرلمان أكان من تشريع ومعالجة موضوعية لأزمات وقضايا الوطن، أم مزاحمة للمجالس البلدية والصناديق الخيرية في النطاق الخدمي، أم اندماج واندغام مع مسلسلات الإلهاء والإثارة السياسية الطائفية المحبذة لدى بعض الأطراف المتنفذة خصوصا وإنها تحقق «الفوضى الخلاقة» والإشغال العام المناسب مع هذه القسمة البرلمانية النحيسة في طائفيتها!
فبعد أن امتازت المرحلة البرلمانية الماضية - المنصرفة من عمر الانفراج السياسي بكونها شهدت دأب طويل لإحدى الكتل البرلمانية الإسلاموية باستغلال نوابها لنفوذهم البرلماني العام في تمرير قوائم توظيف فئوية للمحارم والعزوة والأقارب وأبناء الجماعة والتيار، وبالتحديد من فئة عرقية معينة، واستذباح مزري في أن تشمل وتطال قوائم التوظيف الفئوية هذه مختلف البنى المؤسسية للدولة بغض النظر عن تفاوت دورها الحيوي، وهذا أمر تم التسليم به مجتمعيا وواقعيا، ولا داعي لاتصال مهذب وراق بعدها من قبل أحد مسئولي وزعماء هذا التيار الإسلاموي لتصفية القلوب بماء الغزل!
فبعد كل ذلك الاستذباح الفئوي والطائفي المفضوح في تمرير قوائم التوظيف وممارسة الابتزاز السياسي باسمها إعلاميا وصحافيا ربما حان الوقت للداخلين الجدد ضمن التركيبة البرلمانية الطائفية أكانوا من «الكتلة الأكبر» أم أخواتها الأصغر فآخر العنقود البرلماني الشهي طائفيا، أن يجتهدوا جميعا لأخذ الدروس العملية، واستهلاك الخبرات الوظيفية المتقدمة لزملائهم القدامى وذلك في آليات واستراتيجيات تمرير قوائم التوظيف الفئوية والطائفية الخاصة بأسرع وقت ممكن عبر استغلال النفوذ العام (فسادX فساد)!
فبات ما نحن كمواطنين وأفرادا من الشعب بانتظاره، أو بالأحرى كمشاهدين قطعوا تذاكرهم السياسية لمشاهدته هو فولكلور برلماني و مسلسل إلهاء وإثارة برلمانية ذات منحى سياسي طائفي تدعي كلا منها المصلحة العامة بغض النظر عن مساعي التمكين السياسي الطائفي والفئوي المعلنة في ظل الوضع المكهرب سياسيا وطائفيا!
فعادت «هوشة» ومعارك نواب الجماعات الطائفية والفئوية مع مؤسسات الدولة الخاضعة هي الأخرى لواقع المحاصصات الطائفية، واتخذت هذه «الهوشات» جميعها أشكالا مختلفة وبأساليب مختلفة يتم من خلالها ضرب وزارة بأخرى، وكأنما هم فخار طائفي يكسر بعضه بعضا، وبات لسان الحال يقول ويلا لكل وزير سني من كل نائب شيعي، وويلا لكل وزير شيعي من كل نائب سني، والمطلوب من الوزارات والمؤسسات أن تنصاع لكل مطالب نائب جماعة وحزب طائفي لا شعب سيد ووطني حتى تثبت وطنيتها وإخلاصها!
فالعرف السياسي الانتهازي يوجب على نائب كل جماعة وتيار طائفي أن يستبسل في فرض وسرد قوائم التوظيف خاصته عسى أن يثبت شجاعته الفدائية لأبناء الدائرة والتيار والجماعة الطائفية أولا وآخرا، وهو بلا شك لم يعد أو يتركز لدى كتلة برلمانية دون سواها كما كان سابقا بل تم الآن تصدير هذه التجربة وتوطينها برلمانيا عسى أن تصبح من صميم الفولكلور البرلماني المنسجم حاليا في إلهائه وإثارته السياسية العمياء، وأن تصبح قوائم التوظيف الطائفية والفئوية تلك المقدمة لأجل التمكين السياسي الطائفي كشهادات إثبات وبراءة للولاء للحزب والجماعة ومن ثم الوطن مسك كل ختام، فيكون متواترا مع كل ذلك الإلهاء البرلماني المبتذل صورة النائب الشيعي مع الوزير والمسئول السني كالعادة شديد العقاب وعلى وشك الصياح والنياح، في حين يكون مع الوزير والمسئول الشيعي غفور رحيم وبابتسامات رخية كنسمات الربيع، والحال ذاته ينطبق مع النائب السني، وبالتحديد من أبناء تيار إسلاموي - فئوي معين برعوا في ممارسة تلك الشعيرة السياسية المقيتة ذاتها!
فكلنا يتذكر التصعيد ضد وزير البلديات في بداية الدورة البرلمانية الجديدة من قبل أحد نواب الإثارة والإلهاء السياسي الطائفي المعروفين، وذلك بغرض الإغاضة الطائفية العمياء سياسيا، إلا أن مثل تلك الإثارة والإلهاء المدروس لم تعد مقتصرة على هذا النائب ونواب آخرين كـ «الصارم البتار» وأشباهه، بل هي أصبحت «طائفية متبادلة»، وفي متناول الجميع بما فيها «الكتلة الأكبر»، فبات ملموسا أنه وبعد إثارة الموضوع مع وزارة التربية بخصوص دعاوى بالتمييز الطائفي الذي ينتظر خروج أوراقها وثبوتاتها المستندية للرأي العام بشكل يخدم المصلحة العليا ويراعي المسئولية الاجتماعية عسى أن لا يحتسب على أنه نفخ سياسي في قربة طائفية مقطوعة، فقد ظهر في الوقت ذاته من قبل أحد النواب ادعاء بأن 50 في المئة من انقطاعات الكهرباء في البلاد تحدث لأسباب سياسية وبأغراض موجهة، وهي إثارة سياسية طائفية ولا أروع ، وهلم جر إلى حضيض النفوق الوطني الخدماتي وإلى العمى السياسي الطائفي!
ولعل الأدهى والأمر من واقع المحاصصات والتمييز الطائفي المؤسساتي التاريخي المتبادل بين أشقاء البلد الواحد هو أن يكون البعض من النواب المتحدثين باسم الحفاظ على المصلحة الوطنية العامة ومحاربة التمييز الطائفي في مؤسسات الدولة والمحرضين على البديل والعلاج الحسابي - الرقابي لوزارات الدولة هم من بين أكثر الطائفيين تورطا وانكشافا خصوصا ذاك النائب الــ «سوبر طائفي» وموقفه اللاإنساني إزاء قضية مرتبطة بأخطاء طبية وأرواح بشر، وإن كان الجاني والضحية من ذات الجماعة الطائفية الواحدة بغض النظر عن اختلاف الانتماء الحزبي المتحالف سياسيا!
أو أن يكون هنالك نائب آخر طرح عبثيا كإحدى وجوه التغيير المعارضة يعلن بأنه لا يحب البحرينيين ولا يثق بهم، ويبكي بكاء الأرامل على أذيال وأطلال الفساد والمفسدين، فجميعها وجوه تنافس جديا في إثارتها وإلهائها السياسي «الدونكيشوتي» نواب آخرين كـ «الصارم البتار» والقائمة في ازدياد!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1809 - الأحد 19 أغسطس 2007م الموافق 05 شعبان 1428هـ