في المشهد الأميركي، صرح الرئيس الأميركي، جورج بوش، بأن المسألة السياسية في لبنان تدخل في دائرة الأمن القومي الأميركي، بحيث تمثل المعارضة خطرا على هذا الأمن لمجرد معارضتها للحكومة.
نحن لا نريد الدخول في مناقشة بشأن المفردات المختلف عليها بين السلطة والمعارضة، ولكن هذا التصريح يحمل سلبيتين خطرتين:
الأولى: أنه يتناقض مع الديمقراطية السياسية التي تؤكد أن من حق أي شعب أن يعارض حكومته بالوسائل السلمية التي قد تهدد استقرارها في إدارة أمورها العامة، وربما تؤدي إلى سقوطها كما يحدث في أكثر من بلد بما في ذلك البلدان التي تؤيد فيها الإدارة الأميركية المعارضة السياسية في أميركا اللاتينية وغيرها، وبذلك يسيء بوش إلى المنهج الديمقراطي الذي تؤمن به الولايات المتحدة وتدعو دول الشرق الأوسط إلى الأخذ به في مشروع الشرق الأوسط الجديد.
الثانية: إن هذا التصريح يجعل لبنان ساحة من ساحات الصراع المتوتر بين أميركا والدول المعارضة لسياستها في المنطقة وغيرها، تماما كما هو الحال في التزامها المطلق بالأمن الإسرائيلي واعتباره من الأمن القومي الأميركي، الأمر الذي جعل أميركا تشارك في كل حروب «إسرائيل» العدوانية منذ تأسيسها ضد أكثر من دولة في المنطقة، ولاسيما لبنان ومصر وسورية وغيرها، فهي شريكة في قصف المدنيين اللبنانيين وتدمير البنية التحتية بالقنابل الذكية والقنابل العنقودية التي لا تزال تترك تأثيرها على حياة القرويين والفلاحين. ومن جهة أخرى، فإن هذا الأمر يؤدي إلى المزيد من التوتر بين اللبنانيين، المنقسمين أصلا بين الذين يؤيدون سياسة أميركا تحت عنوان تأييد المجتمع الدولي الذي تسيطر عليه في مجلس الأمن والذين يعارضون هذه السياسة، إلى جانب التعقيدات التي تصنعها الإدارة الأميركية من خلال موفديها ومسئوليها في إثارة المشكلات السياسية التي تمنع أيّ حلٍّ واقعي أو حواري يجمع المواطنين على الوحدة الوطنية.
من جهة أخرى، حمل إلينا الإعلام في زيارة الرئيس الأفغاني، حميد قرضاي، إلى أميركا تأكيده للرئيس الأميركي أن إيران دولة تقدم مساعدة وحلولا لأفغانستان أكثر مما تشكل تهديدا لها، موضحا أن أفغانستان تقيم علاقات وثيقة جدا وجيدة للغاية مع طهران. ولكن الرئيس بوش أعرب عن عدم موافقته على هذا الأمر وقال سأكون حذرا جدا بشأن ما إذا كان التأثير الإيراني في أفغانستان إيجابيا أم لا، فالرئيس الأميركي لا يريد أن يسمع الحديث عن أية إيجابية للعلاقات الطبيعية لإيران مع جيرانها حتى من الرئيس الحليف لأميركا. ذلك أن أميركا تعمل على تخويف المنطقة المجاورة لإيران مما تسميه «الخطر الإيراني» والرئيس بوش غير معني بالخطر على تلك الدول من السياسة الأميركية الضاغطة على شعوب الدول المستضعفة، كما في العراق وأفغانستان، ولذلك فقد جدد القول إن إيران مصدر لزعزعة الاستقرار في المنطقة وأن عليها أن تتخلى عن طموحاتها المتعلقة بالسلاح النووي الذي أعلنت إيران أنها لا تسعى للحصول عليه.
إن الجميع يعرف أن هناك استقرارا أمنيا لا مثيل له في علاقة إيران بدول الجوار بما فيها دول الخليج الذي تحاول إيران تأكيد أسس الاستقرار الأمنية والاقتصادية والسياسية معها، حتى أنها طرحت معاهدة الحماية المشتركة للخليج، ولكن السياسة الأميركية تحاول إيجاد المشكلات في منطقة الخليج ضد إيران انطلاقا من مصالحها الإستراتيجية لا من مصالح دول الخليج، وهذا أمر تعرفه تلك الدول وتخشى منه، ولكن الضغط الأميركي يأخذ مأخذه منها.
ومع ذلك، فإن أميركا اضطرت إلى الدخول في مفاوضات مع إيران بشأن مسألة الأمن في العراق، والمقصود به أمن الاحتلال الأميركي الذي بدأ يتساقط بفعل مقاومة الشعب العراقي الذي دمر الاحتلال وعملاؤه كل أوضاعه السياسية والأمنية والاقتصادية، وحوّل الأمور في داخله إلى حال من الفوضى الدامية التي يستفيد منها التكفيريون الّذين تدعمهم أميركا في شكل غير مباشر، بحيث بات العراقيون يستقبلون في كل يوم المزيد من الضحايا من القتلى والجرحى من المدنيين. كما أن أميركا تواصل أيضا استثارة الفتن المذهبية التي تزيد النار اشتعالا وتنتهي بالوضع إلى متاهات خطيرة.
وفي المشهد الفلسطيني، كانت زيارة رئيس الكيان الصهيوني إلى رئيس السلطة الفلسطينية تأخذ بعدها الإعلامي والذي يستفيد منه أولمرت دوليا، ولاسيما لإعطاء الرئيس الأميركي جرعة سياسية بأنه استطاع إحداث تقدم في الوصول إلى الدولة الفلسطينية، في الوقت الذي يعرف الجميع بأن اللقاء كان بين رئيس دولة احتلال ورئيس كيان يخضع له، وليس بين طرفين متكافئين.
وتحدث الإعلام أن أولمرت أراد أن يبلغ العالم عبر الرئيس الفلسطيني أنه يأمل أن تبدأ قريبا المحادثات من أجل إقامة الدولة الفلسطينية، فكلما كانت الدولة هذه أبعد كلما صار في وسع أولمرت أن يتحدث عنها بصراحة، وقد تحدث بعض مسئولي الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية إن سلطة عباس في الضفة تقوم على الإسناد الإسرائيلي.
ونلاحظ أن رئيس السلطة الفلسطينية لم يحصل على أيّ مطلب من مطالبه ولو الجزئية والمتمثلة في إطلاق سراح عدد من الأسرى وعن توسيع الأذونات للتجار والإفراج عن مبعدي كنيسة المهد والجدول الزمني لإزالة الحواجز العسكرية التي تقطع أوصال الضفة وما شابه. وفي خفايا الحديث، جرى التأكيد على العودة إلى التنسيق الأمني وتبادل المعلومات بين الطرفين، ولاسيما بما يتعلق بحركة حماس وبالمقاومة من أجل حماية الأمن الإسرائيلي. وفي ضوء ذلك، فإنه لا ثمار سياسية من وراء هذه الاجتماعات بين أولمرت وعباس التي تستهدف التغطية على السياسة الأميركية التي تقوم على تحشيد المنطقة العربية وتهدئة الملف الفلسطيني وذلك لصالح شن حروب أو معارك جديدة على دول إسلامية وعربية في المنطقة.
وهذا ما نريد للشعب الفلسطيني أن يفهم خلفياته بما يرتبط بقضيته الكبرى التي يراد العمل على تطويقها وتحجيمها دوليا وعربيا ليقبل الفلسطينيون بأقل قدر ممكن من الأرض وببقايا دولة لا امتداد لها في حركة الحياة والسيادة والاستقلال. وذلك عندما تتطاير الشعارات التي يطلقها البعض من المسئولين فلا يبقى للقدس معنى وتخضع المستوطنات لعملية تبادل في أمكنة أخرى وتحل مشكلة اللاجئين بما يمنعهم من العودة إلى بيوتهم وأراضيهم، أما القدس فإن «إسرائيل» ـ ومعها أميركا ـ لا تتخلى لهم عن شبر منها ـ وكل فلسطين وأنتم بخير.
إنّنا نهيب بالشعوب العربية والإسلامية التي ترتبط المسألة الفلسطينية بأصالتها الدينية والقومية أن تبقى في الساحة في حركة سياسية دائمة وفي دعم مستمر للشعب الفلسطيني لتمنع المؤامرة الدولية والعربية على هذه القضية المقدسة.
أما لبنان، فقد جرت الانتخابات الفرعية في مناخ سياسي وأسلوب انتخابي استطاع أن يدلل على الذهنية الطائفية التي تؤكد زعامة هذا الشخص أو ذاك الشخص لطائفته، وعلى الجدل الدائر الذي يؤكد هذا الفريق بأن انتخاب ممثله كان بأصوات طائفته بينما كان انتخاب الفريق الآخر بأصوات طائفة أخرى، مع هجوم على بعض الطوائف بطريقة مهينة تنكر على هذه الطائفة حقها في اتخاذ الموقف السياسي الذي يتناسب مع قناعاتها أو قناعات بعض أحزابها، كما لو كانوا مواطنين من الدرجة الثانية أمام الطائفة العليا التي لا بد لبقية الطوائف من أن تخضع لها أو تراعي أوضاعها، لاسيما أن قضية الاستحقاق الرئاسي لا تنفتح على إرادة الشعب اللبناني بجميع طوائفه وفئاته، بل يراد لها أن تقتصر على إرادة الرئيس القادم. وقد يكون الدرس الذي يأخذه اللبنانيون من هذه المعركة أن لبنان بات من خلال هذه الذهنيات لا يمثل شعبه ومواطنيه بل يمثل زعامة هنا وزعامة هناك، وعائلة هنا وعائلة هناك، بحيث يختصر عدة أشخاص أو بضعة عوائل الطوائف كلها التي أريد لها أن تتحرك عصبياتها لمصلحة زعاماتها لا لمصلحة وطنها... ويحدثونك بعد ذلك عن قانون انتخاب عادل، ويتحدثون في خطوطه أنه لا بد لكل نائب أن تنتخبه طائفته ولا يجوز أن تنتخبه طوائف أخرى ولا بد لكل رئيس أن تقبله طائفته أو زعماء هذه الطائفة لا أن يقبله الشعب اللبناني كله... ثم يحدثونك عن لبنان الواحد وعن لبنان السيد الحر المستقل الذي تتلاعب بمقدراته وقراراته أكثر من دولة في المنطقة أو في العالم، وفي ظل ذلك كلّه يستمر التوجيه الخطير لجعل الهتافات تنطلق من الحناجر الطائفية ومن التوجيهات الشخصانية والزعاماتية... ويقف الجميع لينشدوا النشيد الوطني الذي لا يُسمح له أن يتحرك في الواقع بل يبقى في موسيقى الألحان فلا يدخل الوجدان أو فيما هو العمق الإنساني في لبنان.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1806 - الخميس 16 أغسطس 2007م الموافق 02 شعبان 1428هـ