تبدأ قصة الكِنْدي قبل ولادته حين صعد نجم والده منذ أيام الخليفة المهدي. فوالده عُيِّن واليا على الكوفة وأصبح يشرف على الضِّياع ويملك الرزق الوفير. في عهد المهدي حصلت اضطرابات ومواجهات اضطر الخليفة إلى خوضها للدفاع عن موقعه وتثبيت حكمه. فخاض معاركَ عسكرية في بلاد فارس ومناطق الروم. وقاد سلسلة طويلة وممتدة من الاشتباكات ضد حركة تمرد تزعمها «المقنع» ونجح في القضاء عليها في العام 165 هـ (781م). بعدها قام بحملة مضادة ضد هجمات البيزنطيين وردعهم وطاردهم في بلاد الروم إلى مشارف مضيق البوسفور.
بعد المهدي تولى الهادي الخلافة في العام 169 هـ (785م) ولكنه توفي في مؤامرة حيكت في القصر اتهم بها الوزير يحيى بن خالد بسبب الصراع على ولاية العهد. آنذاك استمر والد الكِنْدي في موقعه يمارس وظيفته بعيدا عن مؤامرات ديوان الخلافة، التي تولى أمرها هارون الرشيد (شقيق الهادي).
في عهد الرشيد جرت حوادث لا تحصى منذ خلافته في العام 170 هـ (786م). فالأندلس مثلا انفصلت إداريا عن المركز العباسي. وظهرت إلى جوار الخلافة حركات تمرد حاولت عزل بلاد فارس عن أطراف العراق أبرزها تلك الحركة الانفصالية التي قادها الوليد بن طريف ونجح الرشيد في العام 179 هـ (795م) في القضاء عليها. وفي الشام وقعت فتنة أهلية بين القبائل العربية القيسية واليمانية نجح الجيش العباسي في احتواء امتداداتها وتداعياتها.
طوال هذه الفترة المضطربة سياسيا نجح والد الكِنْدي في الاحتفاظ بمنصبه ولم يتشجع على التدخل لمصلحة فريق ضد آخر. وبسبب موقفه المحايد استطاع أن يوفر الاستقرار لدائرته التي شهدت فترة من الانتعاش الاقتصادي والانفتاح. وفي هذا الفضاء المعقول نسبيا ولد الكِنْدي.
اختلف الباحثون على تحديد تاريخ ميلاده ويرجح أن يكون في العام 180 هـ (796م) في البصرة. آنذاك كان والده لايزال يحتل مركزه الإداري في عهد الرشيد. وبسبب هذا الموقع السياسي عاش الكِنْدي طفولة مريحة ساعدته على اكتساب تربية دينية وفرت له لاحقا فرصة للاطلاع على علوم مختلفة (الطب والرياضيات) حين انتقل في شبابه إلى بغداد.
طفولة الكِنْدي في مرحلتها الأولى توزعت بين الكوفة والبصرة في عهد الرشيد. وحين كان في السابعة من عمره وقعت في العام 187 هـ (803م) مؤامرة القصر الكبيرة وقام الرشيد بإجهاضها وتصفية البرامكة؛ ما أعاد تشكيل التحالفات الأسرية وضبطها من جديد في توازنات رسخت موقع الخلافة وسلطتها المركزية. ونجح والد الكِنْدي في ترتيب موقعه والاحتفاظ به لفترة إضافية شهدت خلالها الخلافة مواجهات مستمرة مع الروم البيزنطيين إلى أن نجح الرشيد في كسر شوكتهم واجبارهم على توقيع هدنة ودفع جزية في العام 190 هـ (806م).
انتصار الرشيد في معركته الداخلية (تصفية البرامكة) وحروبه الحدودية (كسر شوكة البيزنطيين) عززا موقع الخلافة وساهما في توليد فترة استقرار مؤقتة فتحت الباب للتفاوض مع ملوك الروم وتطوير العلاقات التجارية والمعرفية؛ ما سيكون له أثره الثقافي الكبير (حركة الترجمة والنقل) في فترة حكم أولاده.
رحل الرشيد وتولى الأمين الخلافة في العام 193 هـ (809م). وفي عهده ستقع فتنة أهلية بين الأمين وشقيقه المأمون لن تنتهي إلا بعد تخريب بغداد واستسلام الأمين في العام 197 هـ واغتياله في السجن في العام 198 هـ (813م)؛ ما فتح الطريق لتولي المأمون الخلافة من دون توتر أو منافسة.
آنذاك كان الكِنْدي (يعقوب بن إسحق) في مقتبل العمر. فهو بلغ سن الثامنة عشرة في العام الذي تولى فيه المأمون الخلافة. وفي عهد الخليفة الشاب سيبدأ الكِنْدي رحلة علمية جديدة تأسست على قواعد تربوية متينة ساعده والده على توفيرها من دون عقبات إدارية أو صعوبات مالية. فالكِنْدي (الفيلسوف لاحقا) يعود نسبه إلى قبيلة كِنْدة (من عرب الجنوب) وجده الأشعث بن قيس (من الصحابة) ووالده (والي الكوفة) منذ عهد المهدي إلى عهد الأمين. وكل هذا الجمع بين الحسب والنسب الذي يربط بين القوة العصبية (القبلية) إلى جانب النفوذ السياسي إلى المكانة الدينية (جده الصحابي) إضافة إلى علومه الابتدائية، وفر للكِنْدي فرصة لأخذ موقعه في سلطة تبحث عن هوية ثقافية خاصة ومستقلة عن الموروث الشعبي ومراكز القرار التقليدية.
في تلك الفترة الانتقالية كان الكِنْدي أنهى علومه الأولى في الكوفة ثم ذهب إلى البصرة ودرس فيها فترة وجيزة وارتحل بعدها بعد غياب والده إلى بغداد. وفي عاصمة الخلافة سيكون لهذا الشاب دوره الخاص والمستقل في الإشراف على إنتاج معرفة ستلعب دورها في زعزعة استقرار الدولة لفترة لا تقل عن 40 عاما.
لا يُعرف متى وصل الكِنْدي إلى بغداد. ولكنه منذ لحظة دخوله المدينة استقر اجتماعيا نظرا إلى ما لقيه من رعاية مميزة من المأمون أعطته فرصة تولي وظيفة في ديوان الخليفة وهي الإشراف على تصحيح اللغة العربية وتنقيحها وتصويبها لتلك الكتب المترجمة عن اليونان. وبسبب هذه الوظيفة تسنى للكِنْدي الاتصال بشيخ المترجمين حنين بن إسحق وابنه إسحق بن حنين وبدأ الاطلاع على الترجمات من فلسفة الإغريق. كذلك اتصل بشيوخ المعتزلة ودخل في سجالات معهم وساهم في جوانبَ من أنشطتهم الفكرية من دون أن يدعي الانتساب إلى مدراسهم.
بدأت شهرة الكِنْدي في عهد المأمون حين استغل موقعه الإداري لتطوير معارفه فاعتنى بدراسة الرياضيات والمنطق والعلوم الطبيعية والفلك والفلسفة والموسيقى. وساعد هذا الجمع بين مختلف فروع العلوم المتداولة في عصره على تشكيل وعي معرفي خاص أعطى الكِنْدي قدرة على تأليف مقالات تميزت في روحيتها عن مدارس المعتزلة وفرقها. فالمعتزلة آنذاك كانوا منخرطين في سجالات فقهية وسياسية ضد العلماء والقضاة وأهل الحديث والرأي وأئمة آل البيت على حين اتجه الكِنْدي إلى حقل معرفي اشتغل خلاله على تأصيل المفردات والمصطلحات الفلسفية وتوضيح معانيها مستفيدا من موقعه الإشرافي مصححا لغويا للترجمات.
اتبع الكِنْدي سياسة والده التي اتصفت بالامتناع عن التدخل في صراعات القصر وخلافات الشارع حتى لا ينزلق إلى معركة غير محسوبة يدفع ثمنها ويضيع على نفسه استكمال مشروعه البحثي وتأسيس منظومة معرفية مستقلة عن المعتزلة. آنذاك كانت الخلافة في عهد المأمون تمر بظروف عصيبة داخليا وخارجيا وكان من الصعب على شاب طموح كالكِنْدي أن يتدخل في معاركَ وهمية تحركها مراكز القوى في القصر. ولكن ابتعاد الكِنْدي لا يعني أن الأمور كانت دائما تسير كما تشتهي إرادته وطموحاته. فالصراعات بلغت في فترات درجة الغليان بسبب الاتجاهات المتطرفة التي ولّدتها سياسة المأمون بشأن ولاية العهد وفتنة «خلق القرآن» مضافة إليها المخاطر المستمرة التي واجهت الخلافة من الأطراف ومحيطها. فالدولة في عهد المأمون شهدت انقسامات أهلية وجوارية (فارسية/ عربية) ومذهبية عائلية (علوية/ عباسية) اتسمت بالعنف الدموي والسياسي وامتدت من القصر إلى الأقاليم الجغرافية المحيطة بالمركز أو البعيدة عنه. فاليمن مثلا استقلت في عهده، وتنازع مصر مجموعة ولاة، وتأسست الدولة الطاهرية في خراسان، واستكمل الحكم الأموي في الأندلس ترسيخ مواقعه بعيدا عن المظلة العباسية.
إلى جانب هذه الانقسامات السياسية والأهلية والأقوامية والمناطقية عُرِف عهد المأمون بنهضة فكرية - ثقافية بعد مصالحات مع الروم قضت بنقل المكتبة البيزنطة إلى العربية. وفي ظل سلطة مضطربة بين السياسة والعقل أنتجت هذه الثنائية القلقة حركة نقل وترجمة وتعريب للتراث الإغريقي (اليوناني) ساهمت في تأسيس ما عُرِف لاحقا بدار الحكمة في العام 215 هـ (830م).
ترافقت النهضة التأسيسية مع نهج سلطوي أكد تثبيت التحالف الايديولوجي مع بعض شيوخ المعتزلة وتياراتهم ومدارسهم؛ ما وضع السلطة في طور لاحق في مواجهات عقائدية مع مختلف الاتجاهات الفقهية التي تعرضت لحملات امتحان أورثت الخلافة العباسية سلسلة هزات سلبية وموجات ارتدادية حفرت في الذاكرة الجمعية خطوط تماس في أسلوب التعامل مع المعارضة (السلفية/ الأصولية).
آنذاك بلغ الكِنْدي سن النضوج الفكري (35 سنة) وقطع في مساره شوطا لا بأس به في تأسيس مفردات تميزت بها مقالاته عن غيره من شيوخ المعتزلة. فالكِنْدي حافظ على استقلاله الفكري نسبيا بسبب احتفاظه بذاك الهامش من الاستقلال السياسي النسبي ورفضه الانزلاق في دهاليز القصر ومراكز قواه وتضاربها الدائم في اكتساب مواقعَ قريبة من الخليفة.
استمر التجاذب المذكور في عهد المعتصم الذي بدأ في 218هـ (833م). وبلغ التنافر بين القوى مرحلة أعلى؛ نتيجة اختلاف شخصية المعتصم (من أهل السيف) عن شخصية المأمون (من أهل القلم). فالخليفة الجديد كان أكثر تشددا ولا يتردد في اللجوء إلى العنف لحسم الخلافات السياسية والعقائدية والأهلية والجوارية. ونتيجة اختلاف الهوى بين السيف والقلم اتجه المعتصم إلى طريق معاكس لشقيقه فمال إلى الترك وابتعد عن الفرس، وقام ببناء مدينة سرّ من رأى (سامراء) في العام 223هـ لتكون عاصمة للجند يعتمد عليهم في المواجهات الداخلية حين يحتاج إليهم.
عهد المعتصم لم يسلم على المستوى السياسي من تلك الاستقطابات الأهلية والجوارية، فاشتعلت في أيامه ثورات وانقسامات جرجرت الخلافة إلى فتن وحروب في بلاد فارس (أذربيجان) وأرض الروم البيزنطية (فتح عمورية في 223هـ). وعلى رغم اختلاف نهجه السياسي واصل المعتصم ترسيخ نهج والده (الرشيد) وشقيقه (المأمون) على المستوى الثقافي فشجع الترجمة وحركة النقل والتعريب عن كتب الهند وفارس واليونان.
وفي عهده بلغ الكِنْدي درجة متقدمة في صعوده السياسي - العلمي حين اعتمده الخليفة مربيا لابنه أحمد. واختيار المعتصم الكِنْدي لهذه المهمة التثقيفية وتمييزه عن غيره من أهل القلم وتفضيله على شيوخ المعتزلة كلها إشارات تدل على المرتبة التي وصل اليها في علاقاته الخاصة مع السلطة. فالكِنْدي آنذاك بلغ درجة من الحكمة جعلته يستفيد علميا من موقع إداري متميز أعطاه صفات الإشراف والنصح والتدقيق والتصحيح والاقتراح وهي كلها مسئوليات توثق العلاقة مع سلطة تطمح إلى تأسيس قواعدَ ايديولوجية للدولة.
في تلك الفترة انتقل الكِنْدي من وظيفة المدقق اللغوي إلى مهنة الكاتب المشرف على التصحيح والتنقيح والتأليف. فهو نجح بعد أن تجاوز سن النضج (47 سنة) في تأليف كتب كثيرة بقي منها 60 رسالة تناولت مختلف الحقول والعلوم بدءا من الموسيقى والفلك إلى الرياضيات والفلسفة. وهذه الثروة المعرفية أهلته لأن يختاره الخليفة لتأديب ابنه. وبسبب هذا الموقع التربوي الخاص نجح الكِنْدي في الاحتفاظ بوظيفته حتى بعد رحيل المعتصم وتولي الواثق الخلافة في العام 227هـ (841م).
شخصية الواثق اختلفت بدورها عن المعتصم. فهو حاول تقليد المأمون (المثقف) ومواصلة خط التصادم (سيف المعتصم). وأدى الجمع بين السيف والقلم إلى تأسيس عهد مال إلى مهادنة الروم والتصالح معهم تاركا مهمة ضبط الأمن وحماية دار الخلافة للجنود الأتراك. وساهمت هذا الثنائية (الروم والأتراك) في تشكيل حركة ثقافية استفادت منها فرق المعتزلة من جانب وتقوية شوكة الترك من جانب آخر فازداد تدخلهم في شئون الحكم.
في خضم هذه المتغيرات السلطوية (النخبوية) بين عهد المثقف (المأمون) وعهد السيف (المعتصم) وعهد الواثق (المأمون الصغير) استمر الكِنْدي يستخدم موقعه ووظيفته لاستكمال مشروعه الفلسفي المستقل عن المعزلة من جهة والفقهاء من جهة أخرى. آنذاك كان الكِنْدي قطع شوطا في التأسيس وبدأ يخطط للانتقال من طور الناقل عن اليونان إلى طور المفكر في فلسفتهم والناقد لها. إلا أن الظروف الانقلابية السلطوية لم تسعفه على إنجاز مشروعه واستكماله. فهو تعرض لنكبة ثقافية بعد رحيل الواثق الذي دام حكمه 5 سنوات فقط. ففي العام الذي رحل فيه الواثق جاء المتوكل (232هـ) ليعيد تأسيس السلطة وفق منظومة معرفية تغاير تلك السياسات التي اتُّبِعت على امتداد 40 سنة تقريبا.
شخصية المتوكل كانت عكسية ولا تنسجم مع روح الدولة التي احتضنت المعتزلة من جهة وأمثال الكِنْدي من جهة أخرى. وبسبب هذا الانقلاب الثقافي الذي تعزز بسلطة سياسية يتحكم في إدارتها الترك بدأت الخلافة في عهده تشهد تحالفات جديدة عكست تحولات ذهنية ومذهبية تمثلت ميدانيا في التخطيط لطرد المعتزلة من الدولة. وبعد نحو سنتين من التفكير قرر المتوكل إعادة النظر في موقع المعتزلة والفلاسفة في دار الخلافة. وأدت هذه الحركة السياسية إلى توليد فضاءات ايديولوجية كادت تطيح بمشروع الكِنْدي الفلسفي لو لم يستخدم «فيلسوف العرب الأول» نفوذه العصبي وقنواته السياسية لإنقاذ نفسه من غضب الخليفة وانفعالاته.
اضطهاد المتوكل للكِنْدي لم يكن عنيفا إذ وافق بعد وساطات واتصالات على التفاوض معه وأعاد إليه مكتبته الضخمة المعروفة بالكِنْدية. وأسعفت هذه الإعادة المشروطة الكِنْدي لاحقا على متابعة العمل على إنجاز مشروعه المستقل. ولكن الظروف السياسية العنيفة تدخلت من جديد لإحباط مخططه الفكري، إذ اغتيل المتوكل في العام 247هـ (861م) ثم اغتيل ابنه المنتصر في العام 248هـ، ثم اغتيل المستعين في 252هـ وهي السنة التي يرجح المؤرخون أن يكون الكِنْدي توفي فيها.
في ظل متغيرات وتحولات لا تستقر عانى «فيلسوف العرب الأول» عزلة الزمان وتاه مشروعه المستقل بين سلطة الكلام وكلام السلطة. فالكِنْدي استغل وظيفته للتفرغ لتأسيس منظومة فلسفية تتجاوز سلطة المتكلمة (المعتزلة) إلا أن انقلاب الأحوال أودى بالمشروع ومنعه من إكماله بعد أن نجحت السلطة في تغيير كلامها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1806 - الخميس 16 أغسطس 2007م الموافق 02 شعبان 1428هـ