قبل انتصار الجبهة القومية في اليمن الجنوبي، كان النشاط الاعلامي للمقاتلين في ظفار قد تمركز في القاهرة، ابان فترة جبهة تحرير ظفار، وكانت الشخصية الابرز في الجبهة الاعلامية والسياسية هو السيد يوسف علوي (وزير الخارجية العماني الحالي) الذي افترق عن الجبهة بعد مؤتمر حمرين مع عدد من القيادات القبلية والسياسية التي رفضت التحول الفكري والسياسي للجبهة واعتبرت ان الشيوعيين قد سيطروا على الجبهة، ولم تتخذ القاهرة الناصرية موقفا مضادا من الجبهة بعد التحولات الفكرية والسياسية لها، حتى جاءت مبادرة روجرز وقبول عبدالناصر لها، واتخذت الجبهة موقف اليسار الفلسطيني من تلك المبادرة مما دفع الحكومة المصرية الى اعتقال مندوب الجبهة، واغلاق مكتبها في القاهرة.
لم تكن للجبهة الشعبية صحيفة، فقد اقتصر النشاط الاعلامي على البيانات العسكرية والسياسية والندوات التي يقيمها اعضاء القيادة عندما يسافرون الى البلدان العربية، والندوات التي يعقدونها في الاوساط الطلابية والشعبية، سواء في القاهرة او الكويت او غيرها، لذا كان من الطبيعي، في الذكرى الخامسة للثورة (9 يونيو/ حزيران 1970) ان يتم التفكير من قبلي وبالتشاور مع هدى سالم وممثل الجبهة في عدن (حسن الغساني) ان نصدر العدد الاول من النشرة، وان نطلق عليها (9 يونيو)، وهكذا تظافرت الجهود خلال ايام قليلة تعد على الاصابع، لكتابة مقالاتها التي ركزت على انجازات الثورة، بالاضافة الى الهجوم الكاسح على القوى السياسية الاخرى التي تتسابق على وراثة السلطان سعيد بن تيمور في مسقط، من مختلف التلاوين، لكنها معادية للجبهة وتوجهها السياسي والفكري... ويمكن القول ان العمود الفقري لذلك العمل الدؤوب كانت هدى سالم، التي اصرت على استمرار العمل طيلة يوم الثامن من يونيو وحتى الساعة الخامسة من صباح التاسع من يونيو لتكون النشرة، المطبوعة على الالة الكاتبة والمسحوبة على ستانسل، والتي تعد صفحاتها قرابة العشرين صفحة، جاهزة بخمسمئة نسخة، وتوزع في الاحتفال الجماهيري، وكانت النشرة موضع تقدير واعجاب كافة الرفاق العمانيين واليمنيين على حد سواء. واستمرت قافلة (9 يونيو) على الستانسل، في الاعداد الاولى، ثم في مطبعة الحظ في حي كريتر، حيث تذكرنا بطباعة الاربعينات من القرن الماضي، ثم تطورت النشرة لتصدر في بيروت، ليكون رئيس تحريرها شخصية اعلامية قديرة ادخل عليها الكثير من التعديلات الفنية بحيث باتت تنافس صحافة المقاومة الفلسطينية، وتحولت من نشرة شهرية في بداية عمرها الى مجلة فصلية، ثم سنوية، حتى اختفت في نهاية السبعينات لتحل محلها نشرة صوت الثورة.
في الثاني عشر من يونيو 1970، تناقلت وكالات الانباء خبر العمليات العسكرية التي قام بها الرفاق العمانيون في عدد من المواقع في عمان الداخل (ازكي وعبرى)، وما اسفرت عنه من اشتباكات وسقوط شهداء وحملة اعتقالات واسعة طالت غالبية الكادر الحزبي، الا ان المسالة الاكثر اهمية بالنسبة لنا هي التسمية التي اختارها الرفاق للعمل في عمان الداخل. فقد كانت قيادة الجبهة الشعبية تعتقد بأن قيادة الحركة الثورية الشعبية ستقوم بالعمليات العسكرية باسم الجبهة الشعبية، لكن الرفاق العمانيين الذين رأوا في تسمية الجبهة تجاوزا لواقع عمان، وارادوا ان يكون لهم السبق في العمل العسكري في تلك المنطقة، اختاروا تسمية اخرى، هي الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير عمان والخليج العربي، حيث صدر بيان سياسي تحليلي يعتبر قيام الجبهة الشعبية الديمقراطية تحولا تاريخيا كبيرا في مسيرة شعب المنطقة، ويعلن قيام الجبهة من الحركة الثورية الشعبية في عمان والخليج العربي، والطلائع الطلابية الثورية، والقبائل ما يعني ان فرع الحركة الثورية الشعبية في عمان الداخل وكوادر حزبية هي التي شكلت هذه الجبهة، وبات مطلوبا مواجهة ردود الفعل التي نجمت ليس فقط لدى الرفاق العمانيين، وانما ايضا لدى الرفاق في الجبهة القومية.
كان الهاجس لدى قيادة الجبهة القومية ان الجبهة الجديدة قد تكون على شاكلة جبهة التحرير التي تشكلت من تنظيمات سياسية ذات علاقة مع القيادة المصرية، والتي اضطرت الى الاندماج معها في 13 يناير 1964، بقيادة الاصنج والمكاوي. ثم الانشقاق والاقتتال على مناطق عدن قبل ان يحسم جيش الجنوب ولاءه لصالح الجبهة القومية، ويثير تساؤلات حول علاقة الجبهة القومية مع البريطانيين! كما ان قيادة عدن قد راهنت كلية على الجبهة الشعبية والحركة الثورية وبالتالي على اليسار القومي ليكون امتدادا لتجربتها في اليمن الجنوبي، وتكون لديها امتداداتها على صعيد جنوب الجزيرة العربية برمتها، وتكون على مضيق النفط حيث التحدي الاكبر.
وفي تلك الفترة كانت الجبهة القومية قد حسمت احد صراعاتها الداخلية، في الخطوة التصحيحية التي اطاحت بالرئيس قحطان الشعبي وفيصل الشعبي وعدد من القيادات الذين اعتبروا يمين الجبهة، ليتسلم الثلاثي: سالم ربيع علي وعبدالفتاح اسماعيل وعلى ناصر محمد زمام الامور، حيث شكل الرئيس سالم ربيع علي (سالمين) الرمز الشعبي للحركة، متحالفا بالدرجة الاساسية مع علي عنتر وعلي سالم البيض وعدد من القيادات التي كانت ترى في النموذج الصيني مثلا يحتذى به، وكانت تلتقي مع الكادر الحزبي الاساسي في الجبهة الشعبية الذي مثله عبدالعزيز القاضي وطلال سعد واحمد عبدالصمد وحسن الغساني والذي كان يدفع باتجاه خلق حزب ثوري يقود الجبهة الشعبية، وتهميش القيادات التاريخية غير الحزبية، بل والتخلص من العناصر الاخرى الطامحة لتسلم زمام الجبهة كالمرحوم هاشم علي محسن، تلك العناصر التي كانت ترى في الاتجاه الصيني نموذجا، واعتبرت نفسها طرفا في الحركة الشيوعية العالمية ضد (التحريفية السوفيتية)، ووجدت الدعم والاسناد من الحزب الشيوعي الصيني منذ مؤتمر حمرين وحتى العام 1971 عندما قررت القيادة الصينية التخلي عن دعم الجبهة والاعتراف بالانظمة السياسية، والوقوف الى جانب الولايات المتحدة وشاه ايران لمواجهة المد السوفياتي الذي اعتبرته الخطر الاساسي على الحركة الثورية العالمية.
كانت الصدمة كبيرة لدى قيادة الجبهة الشعبية، وبالدرجة الاساسية لدى العناصر الحزبية المرتبطة بالحركة الثورية الشعبية التي راهنت على حسم صراعاتها الداخلية في ظفار بالتأكيد للجميع أن الرفاق في عمان الداخل ليسوا الا امتدادا للعمل الحزبي في ظفار الذي كان سريا لكنه ملموس، وينظر اليه بقلق من قبل البعض، ويتمنى البعض ان يكون في الحزب الطليعي الحاكم في المناطق المحررة، حيث المرشد السياسي هو الرمز لذلك الحزب المرتبط بقيادته في معسكر الثورة في (حوف) بقيادة الرفيق عبدالعزيز القاضي، القادم لتوه من القاهرة، والذي تربطه علاقات وثيقة مع عدد من قيادات الجبهة القومية وفي المقدمة منهم علي سالم البيض.
ومنذ البداية لم يكن موقفي مع الرفاق في الجبهة الشعبية الديمقراطية، حيث كان بالامكان تجاوز اشكالية التسمية (الظفارية... الخليج العربي المحتل) بتسمية تتجاوز الحساسيات، وان تكون مقتصرة على عمان، حيث لم يكن واردا لدى احد القيام بعمليات عسكرية في مناطق اخرى من الخليج بما في ذلك دولة الامارات، وبالتالي كان بامكان الرفاق ان يعبروا عن عدم رضاهم من التسمية التي تجاوزت عمان الى الخليج العربي المحتل، بتسمية الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير عمان. الا ان الامور سارت على تلك الشاكلة، وكان من الضروري رأب الصدع بالحوار مع قيادة الجبهة الشعبية وبالحوار مع قيادة الجبهة القومية وبترتيب لقاءات مع قيادات الجبهتين، والاهم من كل ذلك ترتيب اوضاع الحركة الثورية الشعبية وقيادتها التي لم يكن يستمع اليها احد من قيادات المناطق الملتهبة، وكان القابض على السلاح هو الذي يقرر كيف تسير الامور في منطقته، وكيف يجب ان يكون التثقيف الحزبي والبناء الحزبي ايضا.
اين موقع المكتب السياسي، الذي تفرقت بأعضائه السبل، فقد اعتقل احمد حميدان في مسقط، واسر اثنان من اعضائه في العمليات العسكرية (مصطفى وحفيظ) ولا يعرف مصير ابرز رموزه العمانية (احمد علي) في الوقت الذي يرفض الجميع التعاطي مع الشخصية الاكثر ديناميكية والقومي في توجهاته الموجود في ساحل عمان. وامام هذه الاشكاليات، كان من الضروري التداعي لعقد مؤتمر ثالث للحركة الثورية للملمة الصفوف من جهة، والاتفاق على الخطط السياسية المقبلة وخاصة في منطقة عمان السلطنة باقاليمها الاساسية (ظفار وعمان الداخل).
لا بد من كلمة عن العائلة
لقد رزقنا بمولودنا الثاني في البحرين في الرابع والعشرين من ديسمبر/ كانون الاول 1967، وحيث كان عبدالناصر نموذجا فقد كان من الطبيعي ان تتم تسميته خالد. اما الثاني فقد جاء الى الحياة ووالده في سجن ابوظبي، في الثاني والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، ويبدو ان الوالد قد اختار له تسمية وليد، وبعد الاعتقال، كان من الطبيعي ان تعود العائلة الى قطر مع العائلة الكبيرة، وان يتم التفكير بلم الشمل بعد ان ابعدت الى الخارج، ولم يكن احد يعرف مصير الابن المتمرد، عدا انه في بيروت، الا بقية التفاصيل فقد كان الوالد في حيرة من ابنه الذي يخفي عليه الكثير من تحركاته، وهو الذي يتردد على بيروت للعلاج من مرض مزمن ألم به، وتوفي في العام 1972، ولا يعرف مقر الابن الذي اختفت وانقطعت اخباره منذ آخر لقاء معه في اكتوبر/ تشرين الاول 1970.
وحيث اتفقنا على عقد المؤتمر الثالث للحركة الثورية، فقد كانت بيروت هي المكان المفضل، وكانت فرصة لاستدعاء العائلة، وكان الأخ الأصغر (عبداللطيف)، الذي تردد على اخيه في سجن ابوظبي والمغرم بدرجة كبيرة بمغامرات أخيه الاكبر، والبالغ من العمر آنذاك 12 سنة هو (المحرم) الذي رافق العائلة القادمة من قطر الى بيروت يوم الثامن والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1970، حيث كانت العاصمة اللبنانية حزينة على وفاة ابرز قائد عربي عرفته الأمة في تاريخها المعاصر، ولم يكن ممكنا الا الاستعانة برفيق عزيز للذهاب الى المطار لمساعدتنا على الخروج من تلك الورطة، وكان الأخ عبدالرحمن كمال الذي كان لنا معه آخر لقاء في تلك الايام، فقد غادر صفوفنا وباتت له قناعات أخرى، حيث عاد الى البحرين بعد فترة وجيزة، لنواصل مشوارا آخر.
العدد 2267 - الأربعاء 19 نوفمبر 2008م الموافق 20 ذي القعدة 1429هـ