نهاية فيلم «احرقه بعد قراءته» الساخرة تكشف المعضلة التي تعاني منها دولة كبرى تتحكّم بالقرارات الدولية ولكنها في الآنَ تُعاني من أزمة مؤسسات تديرها مجموعة من الأغبياء والسذج. فالفيلم الذي يعرض منذ أسابيع في سينما السيف يتحدّث عن المؤسسات الأميركية الثابتة التي تعاني من بيروقراطية مضجرة وضعف بنيوي وفوضى إدارية وسمسرة ورشا وقلّة تدبير وعدم معرفة بالحوادث الجارية والمتلاحقة. وبسبب الغباء المستشري تضطر المجموعة المكلّفة بالإشراف على حياة الناس وأمنهم ومصالحهم غض الطرف عن الأخطاء والتغطية على الجرائم والسكوت عن الثغرات والتهرّب من المسئولية خوفا على الوظيفة ومعاش التقاعد. ولأنّ الأغبياء لا يعرفون ماذا يجري ولا يدرون ما يحصل يضطرون لتغطية ضعفهم بالدوران حول الحقائق تجنبا للفضائح التي تزعزع ثقة الناس بهم.
نهاية الفيلم تلخص الفكرة العامّة للسيناريو. فالمسئول يعترف أمام موظفه بعدم الدراية ولا يملك التفسير المنطقي الذي يقنع ويشرح للآخر ماذا يحصل ويفسّر للسائل كيف تحصل هذه الأمور وتتداخل من دون قدرة على ضبطها أو احتواء مخاطرها السلبية. وحين تتحكّم مجموعة من الأغبياء بسياسة الدولة الداخلية تنتشر الأخطاء على مختلف المستويات وتعم كلّ المؤسسات وتشل الإرادة وتصبح الأمور سائبة من دون رقابة ومحاسبة. فالكل داخل بالكل. والكل يبحث عن مخرج لحياته حتى لو لجأ إلى مخالفات تهدد أمن الوطن والمواطن.
مجموعة الأغبياء هذه ليست غبية أساسا. فهي تخرّجت من جامعات عليا واكتسبت خبرات ونالت شهادات وعلامات حسنة وترقيات، ولكن الحياة العملية أكبر منهم ومعقدة في تفصيلاتها وأحيانا تكون غامضة ومبهمة ولا يمكن فهمها من خلال الدراسات الجامعية العليا.فالغباء ليس في العلم وإنّما في تلك الوظيفة الرسمية التي لا تساعد على التطوّر المهني والتقدّم في المعرفة وإنّما تساهم في التخلّف الوظيفي الناتج عن الملل والضجر وعدم القدرة على التغيير والإصلاح وتحديث الأساليب والمعايير.
الفيلم ساخر ومضحك ويلعب على الكلمات والألفاظ وازدواجية المعاني ومخارج النطق والحروف؛ ليعطي فكرة عن إشكاليات بسيطة ولكنها تتحوّل إلى كوارث نفسية تهدد وحدة العائلات وأخلاقية الأسر وعلاقات الرجل بالمرأة بسبب أتباع أساليب ملتوية للوصول إلى الحاجات الشخصية.
حين تصل دولة كبرى إلى درجة عالية من تفكك الأسر والعائلات وتنعدم أخلاقية التعامل بين الرجل والمرأة تصبح المؤسسات على صورة الجماعة الأهلية وهذا ما يؤدّي إلى الانهيار العام سواء على مستوى الداخل أو الخارج.
«احرقه بعد قراءته» يراجع الحال الأميركية العامّة مستخدما نماذج بسيطة تعمل في المؤسسات الرسمية أو في القطاعات الخاصة. فهناك أوّلا ذاك الموظف القديم في الخارجية الذي امتهن الدبلوماسية تقليدا لوالده. ولكن ظروف الأب تختلف عن الابن؛ لأنّ الدولة اختلفت وتبدّلت الأحوال من عصر «الحرب الباردة» إلى ما بعدها. فالابن الذي كبُر في السن أخذ يُعاني من البلادة الذهنية التي تحيط به ما أدى إلى توترعلاقاته مع مسئوليه. وبسبب الضجر اليومي قرر الاستقالة من وظيفته؛ ليتفرغ إلى عمل مستقل (استشاري) تعطيه فرصة لكتابة مذكراته عن تجربته القاسية.
هناك ثانيا ذاك الموظف الجبان الذي يعمل حارسا للمسئولين في وزارة المالية. فهذا الموظف متزوّج من كاتبة قصص أطفال ولكنه بسبب خوفه الدائم وقلقه وسوء استخدامه للصلاحيات تحوّل إلى باحث عن المتعة خارج إطار الأسرة نتيجة الفراغ الذي يعيش فيه وقلّة المسئولية وعدم استطاعته تطوير موقعه خلال فترة عمله التي دامت عشرين سنة. وهناك ثالثا موظفة تعمل مدرّبة في ناد رياضي وهي بلغت سن العنوسة ولم تجد الرجل المناسب للزواج منها على رغم إعجاب صاحب النادي بها. فهو معجِب بها ولا يفصح لها وهي تبحث عن زوْج ولا تدرك أنّ صاحب العمل يريدها. وبسبب هذه الزاوية الخفية في علاقة غير موجودة تتخوّف الموظفة من بلوغها سن العنوسة وترهل جسدها. وتقرر الموظفة أنْ تقوم بسلسلة عمليات جراحية؛ لتخفيف البدانة حتى لا تفقد فرصة الزواج من رجل مجهول أخذت تبحث عنه من خلال زاوية التعارف في الانترنت.
هذه الموظفة الباحثة عن زواج وخائفة على جمالها من الضمور تشكل نقطة مهمّة في سيناريو الفيلم الساخر. فهي طلبت من التأمين الصحي دفع كلفة عمليات التجميل فرفض؛ لأنّ هذا النوع من الجراحات غير مضمونة صحيا. وبسبب ممانعة الضمان الصحي لطلباتها بدأت تبحث عن مخرج لتأمين مبلغ 50 ألف دولار مهما تكن الأساليب والكلفة. وهكذا تتورّط المدرّبة الرياضية بمشكلات خطيرة وصلتْ إلى حد توجهها إلى السفارة الروسية وعرضها معلومات «سرية» للبيع مقابل المبلغ المالي. والمعلومات التي حصلتْ عليها مصادفة كانت مذكّرات ذاك الموظف الطاعن بالسن الذي قدّم استقالته من وزارة الخارجية. فالمذكرات عادية ولا تستحق هذا المبلغ ما دفع مسئول السفارة الروسية على رفضها. المدرّبة تغضب ولكنها تأخذ في مواصلة بحثها عن معلومات مقبولة للبيع.
الموظف الذي سرقت مذكراته بدأ يتعرّض للابتزاز من المدرّبة الرياضية وزميلها الطائش الذي يعمل معها في النادي. وهذا ما أدّى إلى اختلاط السيناريو وتداخل الشخصيات ببعضها من خلال شبكة من «الخيانات» الزوجية. الموظف المستقيل تخونه زوجته وتقيم علاقة مع موظف المالية الجبان والمتوتر. والأخير متزوّج وزوجته التي تكتب قصص الأطفال تخونه وتريد الطلاق منه. والمدرّبة الرياضية التي تبحث عن زوج من خلال زاوية التعارف في الانترنت تلتقي الموظف في المالية وتبدأ علاقة غامضة بين الطرفين.
كلّ هذا الخليط المتنافر من شبكة العلاقات كانت تراقبه أجهزة المخابرات وتلاحقه وتصوّره بالعدسات ولكن المشكلة تتركّز في أنّ مجموعة الأغبياء لا تعرف ماذا يحصل على رغم ما تمتلكه من معلومات. فهي لم تكن تُدرك الأسباب الدافعة التي تؤدّي بمدرّبة رياضية إلى عرْض استعدادها للتعامل مع سفارة أجنبية. وهي أيضا لا تعرف كيف تتداخل العلاقات الزوجية وتتعرض الأسر للتفكك.
الكل خوَنة، والكل يبحث عن ضمانات ويُلاحق حاجاته ويَخاف على مستقبله. وهذا النوع من العلاقات المضطربة والمنهارة التي عجزت أجهزة المخابرات عن فك رموزها وتفهم خلفياتها شكّلت مادة دسمة لمكاتب المحامين التي تبحث دائما عن خلافات زوجية لاستثمارها مهنيا وتوظيفها ربحيا. فالمحامي يعرف أكثر من رجل المخابرات وهو على إطلاع أوسع ودراية أعمق لذلك يتعمّد دائما إلى إثارة المشكلات وتحريض المرأة على الرجل والزوجة على الزوج طمعا في الميراث أو تقاسم الثروة.
هذه هي أميركا كما يُحاول الفيلم تكثيفها في صور ساخرة ومشاهد ضاحكة. فالناس بسطاء إلى درجة السذاجة وهذا ما يدفعهم إلى المغامرة والتدهور بحثا عن سعادة وهمية. والأجهزة غبية تمتلك المال والمعدات والعلماء ولكنها تفتقد إلى أذكياء يتمتعون بصفات الإبداع وتجاوز روتين الوظيفة. وبسبب هذه العوامل المتداخلة والغامضة وغير المرئية تصبح المشكلات معقدة وغير مفهومة ولا يمكن شرحها أو تفسيرها. فالتفكك الذي يُعاني المجتمع منه يرسم صورة دولة تُعاني من التفكك. وحين ترتقي المعضلات إلى هذا الدرك السافل في العلاقات تفتح الأبواب على مزيد من التهور وفقدان المسئولية واللامبالاة مايؤدّي إلى خلخل عام وعدم توازن في القراءة أو الأدراك.
سيناريو الفيلم ذكي في سخريته؛ لأنه اعتمد نماذج بسيطة؛ ليشير إلى قضايا عميقة تضرب جذور المجتمع وتزعزع علاقاته الأسرية والزوجية في أدق تفصيلاتها. وحين يصل المجتمع إلى هذا المستوى من الضياع وتصبح المرأة تبحث عن صديق بالانترنت والزوج لا يعلم ماذا يحصل في بيته تبدأ الدولة بالاهتزاز؛ لأنّ مؤسساتها غبية وعاجزة وتنقصها الخبرة ولا تمتلك ذاك الذكاء الذي يساعدها على فهْم الأمور وكيف تجري ولماذا تتجّه نحو التفكك والتمزق؟
إنّها مجموعة أغبياء تحكم دولة كبرى. والمؤسسات صورة رسمية عن مجتمع تائه... ومع ذلك وهذا الغريب في أميركا تبدو الأمور سهلة وكأنّها مضبوطة وتحت السيطرة.
العدد 2267 - الأربعاء 19 نوفمبر 2008م الموافق 20 ذي القعدة 1429هـ