مرّت ذكرى انتصار لبنان على «إسرائيل»، على قومنا مرور الكرام. فالعرب اليوم يملكون أكبر عددٍ من الفضائيات المشغولة بإعادة الأفلام القديمة وأغاني «الفيديو كليب» و«الرقيق المائع»، أمّا حكايات عنترة وأشعار عَمرو بن كلثوم وذو الفقار فسقطت سهوا أو عمدا من الذاكرة العربية!
العرب مشغولون اليوم بإعداد جيوشٍ من الشبان والصبايا الراقصات، ليهزموا الأمم الأخرى في ميدان الفن والطرب والأغنيات. أمّا المروءة والكرامة والعزة... فمصطلحات ممنوع تداولها في الإعلام العربي المعاصر، لكي لا يفسد الذوق العام!
من هنا، لم يحتفل الإعلام العربي بذكرى انتصار لبنان على «إسرائيل»، فمثل هذا الاحتفال إعلان إفلاس للواقع المتخاذل المنهار. بالمقابل، كان على هذا الإعلام أنْ يقوم بتغطية عوراتنا القومية، فالحزب الذي قاتل «إسرائيل» حرامٌ أنْ تدعو له بالنصر، فضلا عن التبرع له بالمال. وهكذا كان على هذا الحزب الذي كان يدافع عن شرف الأمّة... كان عليه أنْ يقاتل وحدَه، محاصرا، مدانا، ملعونا على رؤوس الأشهاد. وتولّت الأقلام المرتشية محاربة حتى صورته، كأنه مهاجرٌ من يهود بولندا أو من يهود الفلاشا، وليس سيفا من سيوف الإسلام، وبطلا من أبناء هذه الأرض العربية، وحفيدا من أبناء محمد (ص).
الذكرى مرّت، والحرب دخلت خانة التاريخ، ولكن سيبقى المشهد العربي الراهن عِبرة لمَنْ أراد أنْ يعتبر. نظامٌ عربيٌ متهالك، تم تركيعه منذ خمسين عاما، فأخذ يزحف في أيامه الأخيرة على بطنه ؛ ليقبلوا منه مشروع السلام الجماعي العربي، والطرف الآخر لا يقبل حتى الجلوس على طاولة المفاوضات. وقبل أسبوعين بعثوا له وزيري خارجية دولتين معتدلتين، أكملتا توقيع «سلام الشجعان»؛ ليكونا خير وسيطي سلام. أرسلتهما الجامعة العربية على استحياء وخفر، فهما لا يمثلانها وحدَها بل يمثلان الإرادة العربية العارمة في تحقيق السلام!
لم يتوقع نصر الله أنْ تبث الفضائيات العربية احتفاله بالنصر، وهو الذي كان كلّ طموحه أنْ يكفوا عنه ألسنتهم ويتركوه يحارب عدو الله وعدوهم. كان واقعيا تماما، فلم يتوقع من الإعلام المصاب بالتخمة النفطية أنْ يبث الأناشيد الحماسية التي تبث الوعي وتضخ الرجولة في العروق.
الذكرى مرّت وانقضت، وستمر غيرها، وسرعانَ ما سيمضي الزمن بالجميع، حتى يصبح نصر الله وشانئوه والمتآمرون عليه والخجلون من سيرته... كلّهم سيصبحون جزءا من التاريخ، ولكن شتانَ.
سيُكتب اسم نصر الله أيقونة من أيقونات النضال العالمي ضد الظلم والاستبداد وعجرفة القوة، بينما ستضاف الأسماء الأخرى إلى أكوام الجبناء وباعة الضمائر وسماسرة الأوطان.
في آخر بطولاتهم، ذهبوا يتسوّلون «السلام» من تل أبيب فلا يُعطَونه، وفي آخر صنائعه خرج على الإسرائيليين مهدّدا: «إذا فكّرتم أيها الصهاينة بالاعتداء على لبنان أعدكم بمفاجأة تغير مصير الحرب والمنطقة»؛ ليعيد فرض توازن الرعب من جديد.
أطنان من بيانات ومواقف واستنكارات اثنتين وعشرين دولة عربية منذ خمسين عاما، لم تهز شعرة في إبط «إسرائيل»، بينما كلمة من فم هذا الرجل ترعب قلوب الإسرائيليين من حرب جديدة مع حزب الله باتت حتمية حتى َظَنُّوا أَنَّهُم «مُوَاقِعُوهَا». يثقون به أكثر ممّا يثقون بقياداتهم؛ لأنه مثل جده الصادق الأمين «لم يكذب يوما في حياته»، كما قال وزير البنى التحتية الإسرائيلية بن اليعازر أمس (وهو عضو الحكومة الأمنية المصغرة بالمناسبة). وأضاف حانقا: «إنّ تصريحاته حول المفاجأة التاريخية تنم بالتأكيد عن صلف لكنه ينفذ ما يقوله. أنا أصدّقه لكن لا أعرف ما هي المفاجأة التي ألمح اليها»... والفضل ما شهدت به الأعداء.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1805 - الأربعاء 15 أغسطس 2007م الموافق 01 شعبان 1428هـ