يرى دعاة الليبرالية الاقتصادية الجديدة، أن الاقتصاد العالمي سيظل مريضا مادامت الدولة تدس أنفها في شئونه، وتتدخل في أوضاع السوق التي ينبغي أن تُترك ميدانا للمنافسة بين الأفراد. وهذا لا ينحصر في التدخل في مباشرة الإنتاج للسلع العينية، بل حتى الخدمات يجب على الحكومة التخلي التدريجي عنها، حتى تتحكم في سعرها السوق، وذلك وفقا لقانون العرض والطلب والأثمان.
الأعداء أطلقوا عليها صفات منفرة، كتسميتها بالليبرالية المتوحشة، وهذا قد يرجع للصورة العنيفة التي يصف بعض دعاتها الوضع الاقتصادي، كمريض يعاني طرف من أطراف جسمه من السرطان الذي يتمدد ببطء ليشل كل الجسد، ما يعيقه من القيام بواجباته، فالجسد يتداعى إذا أصاب جزء منه جرح مؤلم، ويتوقف جميعه عن النشاط ، وبالتالي فإن التعجيل في سرعة إزالة هذا العضو، مع ما في هذه العملية من مكابدة شاقة وعنيفة، ولكنها الطريق الوحيد حتى ينعم بعد ذلك الجسد بالصحة والانطلاق.
ولهذا لا يتردد بعض دعاتها بالجهر بقسوة هذا الحل، فيذكر أحدهم بأنه يعلم أن الفقر سيزداد وسيعرى الناس. أكثر من ذلك، لديهم فكرة أطلقوا عليها «مفعول التساقط»، تبرر النتائج الفاقعة الحتمية لهذه السياسة الاقتصادية الجديدة، ويقصدون بذلك أن تزايد ثراء الأغنياء وحصول التفاوت الفاحش، سيعقبه تساقط كرذاذ المطر يعم على الكل، وهذا الرذاذ المستقبلي هو « الذي يبرر ما ينجم من تفاوت في الدخول والثروات نتيجة السياسات الليبرالية الجديدة» كما يقول المفكر السوري منير الحمش في كتابه (الاقتصاد السياسي... الفساد - الإصلاح - التنمية). غير أنه لا نعرف دليلا علميا للبرهنة على ما يذهبون إليه، إذ يكتفون بالقول إن هذا التساقط سيحصل ولكن على المدى البعيد. ولا خيار في تصور المروّجين لليبرالية الاقتصادية الجديدة للخروج من مأزق التخلف، سوى هذا الخيار الذي يتمثل بالرجوع لنظام اقتصاد السوق الحر بصورته الكلاسيكية القديمة، التي هجرتها أميركا وأوروبا منذ مابعد أزمة 1929 في أربعينات القرن الماضي، وتبنت أفكار الانجليزي جون كينز التي تعتبر في رأي البعض تعديلا على ذلك النظام.
ويرى أصحاب هذا الفكر الجديد، أن المرور بمرحلة شدّ حجر المجاعة على البطون واردة بقوة، ولكن في نهاية النفق، سيظهر الضوء الذي ينفتح على جنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، من لذات ومتع. هذه الروح القاسية التي تشوب هذا الطرح، تذكرنا بتجربة تاريخية مرّت بها أوروبا، حين طبّقت الرأسمالية القديمة التي أسس لها بعض علماء ومفكري القرن الثامن عشر، كآدم سميث، وريكاردو، وغيرهما، والذين وإن اختلفوا في التفاصيل، فيجمعهم الإيمان بالحرية الاقتصادية المطلقة للأفراد كما هي الليبرالية الاقتصادية الجديدة تماما. ففي القرن الثامن عشر والقرن التاسع ظهر مفكرون يبررون للنتائج المرتقبة لمثل هذا الطريق، كما هو الحال بالضبط ممن يبرر لليبرالية الجديدة، يقول آرثر يونج (القرن الثامن عشر): «لا يجهلن سوى الأبله أن الطبقات الدنيا يجب أن تظل فقيرة، وإلا فإنها لن تكون مجتهدة»، ويقول مالتس (القرن التاسع عشر): «ليس للذي يولد في عالم تم امتلاكه حق في الغذاء إذا ما تعذّر عليه الظفر بوسائل عيشه عن طريق عمله أو أهله، فهو طفيلي على المجتمع لا لزوم لوجوده، إذ ليس له على خوان الطبيعة مكان، والطبيعة تأمره بالذهاب ولا تتوانى في تنفيذ أمرها» (النصان نقلا عن اقتصادنا للسيد محمد باقر الصدر، ص 343). وقد استمرت الدول الرأسمالية تعيش الرأسمالية بصورتها المطلقة التي تُدعى حاليا بالليبرالية الاقتصادية الجديدة وذلك في القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين، وآمن أولئك العلماء كآدم سميث بأن تحرير التجارة بين الأمم كفيل بازدهار الحياة الاقتصادية، وهذا ما يكرره الرئيس الأميركي الحالي، جورج دبليو بوش.
وحاليا، يوجد توّجه هنا في البحرين وبعض الدول النامية، لتبني النهج نفسه كما صرّح بذلك بعض المسئولين، ولسنا هنا في صدد الحكم على هذا التوجه، ولكن ينبغي أن يعي القائمون عليه، والمرّوجون له، بأن العمّال لم يعودوا يقبلون حياة الكفاف كما كان في القرن التاسع عشر حين كان الاستبداد السياسي سمة ذلك العصر، فهذا عصر حقوق الإنسان، والتطبيق الحرفي للتوجه الجديد، يعني فقدان الكثير من المكتسبات التي أقرتها المواثيق الدولية، خصوصا فيما يتعلق بالخدمات، التي أثبتت التجارب التاريخية، حتى في الدول الأوروبية الرأسمالية، صعوبة قيام غالبية فئات المجتمع بتوفيرها لأنفسهم من دون تدخل الدولة، ولهذا جاءت الدساتير، ومنها دستور مملكة البحرين، متناغما مع بعض مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي صدر سنة 1948. فهذا الإعلان يتحدث عن حق الفرد في إشباع حاجاته المادية والتي نطلق عليها «مستوى المعيشة»، فتعرفه المادة 25 من الإعلان بأنه: «لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كافٍ للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية، وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة، وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته».
التوجه الجديد، والذي يراد له أن يشمل كل العالم ليصبح سوقا واحدة، يعني تخلي الدولة عن فكرة مجتمع الرفاه، لأنها ممنوعة من التدخل في النشاط الاقتصادي، سواء فيما يتعلق بمباشرة الإنتاج للسلع العينية أو الخدمات، وبالتالي فهل سيضمن التوجه الجديد لكل جاد كفء حياة رافهة، أم ترجع عقارب الساعة للخلف من حيث الافتقار للخدمات الصحية، والتعليم، وغيرها من خدمات بعد تخلي الدولة عن هذه المسئوليات وفقا للتوجه (الجديد - القديم) إذ يسود السوق قانون العرض والطلب والأثمان؟ فمن لديه الثمن، ينال ما يريد، ومن ليس لديه، فلا مكان له في الحياة، ولا حق له في المطالبة.
التاريخ يحدثنا عن اضطرابات تفجّرت في أوروبا، أجبرت الدولة على تبني الضمان الاجتماعي، والخدمات، وتوفير العمل، فإذا كان اقتصاد السوق الحر بالصورة التي يتم الترويج لها هنا، والتي تجعل من الحكومة تبرر الارتفاع الجنوني في الأسعار من دون تدخلها، وترفع الحماية الأبوية حتى عن العمالة الوطنية قبال منافسة الأجانب ذات الأجور المنخفضة... كل ذلك تحت يافطة أن هذا الطريق نحو المنجاة، فإنه وحتى لا تكرر صورة تلك الاضطرابات في بلدنا كنتيجة مرحلية يتحتم المرور بها كما يزعمون، فيجدر بالدولة توظيف الفائض من مدخول النفط، حتى تمر عاصفة هذا التوّجه بسلام، ومن دون الحاجة لبتر وقطع وجوع وفقر؟ فمن يمكنه إقناع الفقير بالصبر على فقره وهو يشاهد الأبنية على مشارف قريته تناطح السحاب، ومن يستطيع التحدث مع الجائع ومطالبته بتحمل ألم الجوع إلى أن نصل إلى نهاية النفق والخروج إلى الجنة الموعودة (غير المضمونة مطلقا)، وهو يعاين البذخ على ألعاب الكبار ووسائل ترفيه المترفين. وتزداد المسألة تعقيدا، بالذات حين تتواكب كل هذه الصور المتناقضة، مع عدم قناعة من جانب الشعب، وعدم ثقة في توجه الدولة هذا. ولو افترضنا ضمان نتائج المسار الجديد الإيجابية، فبأي حق يكابد الفقراء نتائج أخطاء سابقة أحالت بلدا نفطيا، يتفوق على أكثر دول الخليج من حيث متوسط دخل الفرد، لبلد يعيش غالبيته تحت خط الفقر؟ ومن يضمن نتائج هذا التوّجه في ظل انعدام الشفافية، وضعف سلطة الشعب أمام الحكومة، وانعدم فعالية أدوات تصحيح المسار لو تطلب ذلك.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1805 - الأربعاء 15 أغسطس 2007م الموافق 01 شعبان 1428هـ