العدد 1805 - الأربعاء 15 أغسطس 2007م الموافق 01 شعبان 1428هـ

رئاسة لبنان والجنرالات الثلاثة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تحت سقف دولي ينتظر لبنان استحقاقات دستورية تتراوح بين مطالبة بتشكيل حكومة مشاركة وطنية تمهد الطريق لانتخاب رئيس للجمهورية وبين مطالبة بتأخير تشكيل حكومة جديدة إلى ما بعد انتخاب الرئيس. وبين الحكومة أولا والرئاسة أولا تتجه القوى المحلية إلى استنفار شوارعها لمواجهة دستورية قد تنتهي إلى حال من الفراغ الأمني والفوضى السياسية.

لبنان منذ توقف العدوان الأميركي - الإسرائيلي يمر في حالات من القلق والخوف من المستقبل وعدم القدرة على تشكيل توازن يضمن الاستقرار بين مشروع دولة وايديولوجية مقاومة. وهذا التعارض بين الخطين ساهم في تأسيس استقطابات أهلية عطلت إمكانات تطوير برنامج يتمتع بآليات تساعد على الخروج من أزمات متتالية. فالبلد يعاني منذ أكثر من سنة حالات اضطراب متنقلة من الشمال (مواجهات نهر البارد) إلى بيروت (تفجيرات واغتيالات) إلى الجنوب (قوات دولية تنتشر على خط نار).

هذا التوتر الأمني يتعايش مع فوضى سياسية. فهناك حكومة ربع مستقيلة، وهناك دولة شبه مشلولة، وهناك اعتصام شبه دائم في وسط العاصمة التجاري، وهناك تهديدات مبطنة بالحروب واستئناف العدوان مقابل تطمينات ملتبسة بعدم وجود خطة إسرائيلية بتوجيه ضربة استباقية غادرة. كل هذا الحفل المتنوع الألوان والإلحان يجري في ظل إيقاع دولي/ إقليمي لا تعرف نهاياته من الآن. البعض يرجح مواجهة كبرى تزلزل المعادلات وتغير الخرائط، والبعض يرجح تسوية كبرى تعدل التوازنات وتعيد رسم الخريطة السياسية للمنطقة تتناسب مع توزع طوائفها ومذاهبها.

لبنان تحت هذا السقف الدولي/ الإقليمي يستعد للتعامل مع استحقاق دستوري خطير يتنافس على مقعده الرئاسي مجموعة مترشحين من الطائفة المارونية. وكل مترشح يعتبر نفسه الأنسب لإنقاذ الكيان من ورطة محتملة. والكل يدرك بأن انتخاب الرئيس في لبنان يتوافق عليه خارج قبة مجلس النواب. والتوافق عادة يشكل نقطة توازن لمعادلة القوة الدولية والإقليمية. فالرئيس ماروني لبناني في الظاهر، ولكنه فعليا هو نتاج تسوية ترمز إلى معادلات تمتد سياسيا إلى خارج حدود بلاد الأرز الجغرافية.

هناك مترشحون كثر من «8 و14 آذار». وهناك أسماء معلنة وغيرها طي الكتمان لا يعلن عنها إلا في اللحظات الأخيرة. ولكن المترشح الأبرز كان ولايزال الجنرال ميشال عون الذي يطمح منذ مدة إلى احتلال هذا الموقع، معتبرا الدورة المقبلة فرصته الأخيرة في اعتبار أن تقدمه في السن يعطل عليه إمكانات التنافس بعد ست سنوات.

إلا أن الجنرال عون بات في وضع صعب بعد تلقيه تلك اللكمة على أنفه في انتخابات المتن الشمالي الفرعية. فالفرز النهائي للأصوات لم يصب في مصلحته السياسية بعد استنكاف المقترع الماروني عن تأييده.

تراجع فرصة الجنرال عون أتاحت المجال لقائد الجيش اللبناني للتقدم خطوة إلى الأمام والدخول معه في تنافس دستوري على الرئاسة. الجنرال الآخر (ميشال سليمان) لم يطرح نفسه رسميا على المنصب لاعتبارات بروتوكولية كثيرة منها أنه لايزال يخوض معركة «نهر البارد» وهي حتى الآن لم تبلغ فصلها الأخير بعد نحو 90 يوما على اندلاعها. ومنها أيضا أنه يحتاج إلى تقديم استقالته من منصبه العام قبل ستة أشهر من اقتراب موعد الانتخاب، وهذا لم يحصل الأمر الذي بات يتطلب تعديل الدستور لمرة واحدة فقط. وعملية التعديل تحتاج بدورها إلى موافقة نيابية عليها. والموافقة قد تدفع القوى السياسية إلى مواجهة دستورية وأزمة عامة تشبه تلك التي حصلت حين عدل النواب الدستور لمرة واحدة فقط حتى يمدد للجنرال اميل لحود نصف ولاية.

جنرال وجنرال

لبنان إذا ينتظر مشكلة تبدأ من ثغرة الرئاسة وربما تدفع بالبلد إلى فراغ دستوري في حال لم تتوافق القوى السياسية على مشروع هدنة مؤقتة أو تسوية قاسية يتنازل فيها كل طرف عن بعض مطالبه وتمرير الممكن والمعقول من مطالب الطرف الآخر. وهذه المهمة كما يبدو باتت صعبة في لبنان وتحتاج إلى مساعدة خارجية وإقليمية للتوصل إليها. فالتقاليد اللبنانية أشارت مرارا إلى حاجة محلية للتعاون مع الخارج لترتيب أوضاعه الداخلية كما كان حاله في مختلف الدورات الرئاسية السابقة. فالجنرال عون إذا أراد احتلال هذا المنصب فإنه يحتاج إلى عون من قوى دولية وإقليمية تسهل له مهمته وتفتح له طريق الوصول. وهذا ما سبق وفعله الجنرال لحود حين انتقل من قيادة الجيش إلى قصر الرئاسة. والأمر نفسه ينطبق على الجنرال المنافس ميشال سليمان.

الجنرالات الثلاثة يملكون التجربة نفسها ومروا في التراتب العسكري وصولا إلى قمة مؤسسة الجيش وقيادتها. والآن يحاول الجنرال سليمان تقليد الجنرال لحود في الانتقال مباشرة من الثكنة العسكرية إلى مقر الرئاسة. وبينهما يقبع الجنرال عون محاولا اجتياز الميل الأخير بعد مسيرة أميال قطعها على هامش الرئاسة منذ أن كلفه الرئيس السابق أمين الجميل مسئولية تشكيل حكومة مؤقتة خوفا من الفراغ الدستوري وتمهيدا لشغل موقع الرئاسة الشاغر.

الجنرال عون ذاق طعم الرئاسة في العام 1988، ولكنه لم يفز رسميا بهذا المنصب باعتبار أن تكليف الجميل له أنتج حالات من الانقسام السياسي وولد شرارات حروب قادها الجنرال شرقا وغربا ثم شمالا وجنوبا. فهو مثلا أعلن «حرب التحرير» ضد القوات السورية العاملة آنذاك في لبنان وأخذ بقصف مواقعها وحواجزها وردت عليه بقوة فصمت. بعدها انتقل إلى «حرب الإلغاء» أو توحيد البندقية المسيحية فشن هجمات على القوات اللبنانية (سمير جعجع) فانتهى الموضوع بانقسام الشارع المسيحي وانشطاره إلى بندقيتين. بعدها انتقل إلى رفض «اتفاق الطائف» ومقاومته فاعترض على انتخاب رينيه معوض رئيسا. وبعد اغتيال معوض اعترض على انتخاب الياس الهراوي ومنعه من الصعود إلى مقر الرئاسة لسبب بسيط وهو أن عون كان يسكن القصر ويرفض أن يشاركه الرئيس المنتخب المنصب الذي كلفه به الجميل مؤقتا.

استمر حال الجنرال عون (ضابط مدفعية سابق) على حاله يقصف يمنة ويسرة مستفيدا من نزاع نظام صدام حسين مع النظام السوري إلى أن دخل العراق «أزمة الكويت» في العام 1990. أزمة الخليج الثانية انتهت عراقيا بخروج صدام من الكويت بضغط من القوات الأميركية، ولبنانيا بخروج حليف صدام من القصر بضغط من القوات السورية.

الآن عاد الجنرال المتقلب في مزاجه السياسي للمطالبة بموقع انتزع منه عنوة أو على الأقل حرم من الوصول إليه بعد أن ذاق طعمه بالتكليف لا بالانتخاب. وحتى يصل لابد له أن يجتاز الميل الأخير في سباق التنافس. والميل الأخير هو الأصعب لأنه يحتاج إلى جهد شخصي وتكاتف قوى وتعاضد مجموعة عناصر دولية وإقليمية ومحلية للتوافق عليه واختياره دستوريا.

الجنرال الآن هو المترشح الأقوى، ولكنه يحتاج إلى غالبية نيابية لانتخابه. والغالبية النيابية لا تريده نظرا إلى غرابة سيرته الذاتية المنفعلة والمتقلبة على مختلف الجهات. فهو مثلا غادر القصر الجمهوري عنوة في خريف 1990 وهرول إلى السفارة الفرنسية في بيروت ومنها إلى باريس حيث مكث فيها نحو 15 سنة يهاجم سورية يوميا. وقبل عودته بعد خروج القوات السورية من لبنان عرج على الولايات المتحدة وأدلى بشهادة ضد دمشق في الكونغرس وأعلن أنه «الأب الروحي» للقرار الدولي 1559.

هناك مجموعة عناصر دولية وإقليمية، إضافة إلى المحلية، تعترض وصول الجنرال عون إلى المكان الذي عاش فيه قبل 17 سنة نحو سنتين. وأساس الاعتراض يكمن في تلك السيرة القلقة التي تنتقل من ضفة إلى أخرى من دون نقد ذاتي للفترة السابقة أو على الأقل توضيح مجرى ذاك الاضطراب المتتابع في المشروع السياسي.

مشكلة الجنرال عون تشكل ذاك العنوان المشترك لكل الجنرالات وخصوصا تلك الفئة الطامحة أو الراغبة في احتلال موقع الرئاسة الأولى في بلد يتألف من طوائف ومذاهب ويعتمد نظام الملل والنحل في إنتاج القيادات السياسية. ومثل هذا البلد الفسيفسائي أقرب إلى مزاج «الكوكتيل» لا «الثكنة» ويحتاج إلى عقل بارد يعقد التسويات ولا ينفعل بالسخونة ودرجات الحرارة في لبنان ومحيطه.

دولة لبنان مدنية عموما ولا تحتاج إلى «جنرال» يحكمها نظرا إلى كون البلد يتشكل من أمزجة تتطلب حكمة سياسية أكثر من حزم عسكري.

هذا التركيب اللبناني الخاص بات على قاب قوسين من التفكك والانهيار. فالبلد يواجه أخطر استحقاق دستوري في الأسابيع المقبلة والكل يتنافس على الرئاسة بينما المطلوب الاحتفاظ بالحد الأدنى من العقلانية لمنع انهيار جمهورية «الطوائف والمذاهب» إلى «جمهوريات».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1805 - الأربعاء 15 أغسطس 2007م الموافق 01 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً