بدأت الأعمال الرخامية تنتصب في شموخ مستفز، يقف أمامها الشخص محاولا أن يلمس الجمال من تلك الصلابة، يجد نفسه في وسط متناقضات أخاذة، بين الجمال والخشونة، بين النعومة والصلابة، بين اللمعان والتكوين، إلى أن يفضي إلى كونه مملوكا وأسيرا لتلك القطع الحجرية، التي عملت عليها أيدٍ ومعاول من أقطار متفرقة، عكست أذواقا وتجارب وأحاسيس ورؤى تنضح بالإبداع.
المشروع الذي حمل اسم «سمبوزيوم المحرق الأول» أقيم بتنظيم من مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، وتحت رعاية ودعم من بنك «آركابيتا» في الفترة من 1 إلى 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، احتضنته الساحة المتوسطة بين جمعية الإصلاح والسوق المركزي بالمحرق، بمشاركة عشرة نحاتين من البحرين، ومصر، وسورية، واليونان، وإيطاليا، والتشيك، وتركيا.
وفيما كانت الأحجار الصغيرة تتناثر، والأغبرة تتطاير من عمليات القطع والتنعيم للأعمال، التي أنجز بعضها وشارف معظمها على الانتهاء، اصطفينا ركنا غير بعيد عن هذه الأجواء للتحدث مع الفنان علي المحميد، المشرف العام على هذه الفعالية، والذي تحدث لنا قائلا «يأتي هذا المشروع كتكملة لمشروع بيت بن مطر، الذي هو أحد البيوت الثقافية المقرر افتتاحه في مدينة المحرق ضمن مشروع مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، وعلى هذا الأساس تقرر إقامة سمبوزيوم المحرق الأول، وذلك ترابطا مع كون البيت في المحرق، فأتى السمبوزيوم مكملا للمشروع»، حيث أضاف «الفكرة ومالك أعمال السمبوزيوم هو المركز، بدعم ورعاية بنك «آركابيتا» الذي قام بتمويل المشروع، والفكرة تعود لرئيسة مجلس أمناء المركز الشيخة مي بنت إبراهيم آل خليفة، إذ إن الأعمال المنجزة سيتم عرضها في البيت كي تضفي عليه الحياة، فطلب مني إقامة السمبوزيوم، وبادرت بالاتصال بعدد من الفنانين وجمع المواد وتجهيز المعدات اللازمة، حتى بدأنا العمل في الأول من شهر نوفمبر، ومن المقرر أن ننتهي في 20 من الشهر نفسه».
وفي وسط منطقة تتميز بالحركة المستمرة، بين السوق والجمعيات وبعض المساكن الخاصة، وجد المحميد السبب في انتقاء هذا الموقع أن «البحث كان جاريا لانتقاء منطقة فضاء، تكون قريبة من مكان المشروع لتسهيل نقل الأعمال، ووجود الموقع بالقرب من جمعية الإصلاح والسوق المركزي، فإن ذلك جعل الكثير من الناس يمرون من أجل الإطلاع والسؤال عما يقوم به الفنانون، وهي نتيجة إيجابية للموقع المختار».
يشارك في السمبوزيوم من البحرين أربعة نحاتين، هم خالد فرحان، وعلي المحميد، وفؤاد البنفلاح، وخليل الهاشمي، إلى جانب محمد رضوان من مصر، وفؤاد الجبور من سوريا، وأنتونيوس من اليونان، وسيمونا من إيطاليا، وإيهان من تركيا، وإيميل من التشيك، إذ قدم كلّ منهم عملا يعكس تصوره للخام الرخامي الذي بين يديه، بحسب اختياره وأسلوب عمله، وكما ذكر المحميد أن جميعهم من المحترفين في مجال النحت، وهذه ليست أولى مشاركاتهم في مشاريع سمبوزيوم.
المحميد أبدى احتمالا لأن تتكرر مثل هذه التجربة في مرات مقبلة، حتى مع انتفاء سبب السمبوزيوم وهو افتتاح بيت بن مطر، وهو ما دعاه لتسميته بالأول قائلا «من المحتمل أن نعيد هذه التجربة، وذلك ما دعانا لتسمية هذا السمبوزيوم بالأول، على أمل أن يتكرر بحسب الظروف، والأمر متروك للأيام».
أما رده عما يحققه السمبوزيوم للبحرين والفنان البحريني فقد أجاب المحميد «السمبوزيوم مدرسة ودورة جديدة في النحت يدخلها كل فنان، يتعرف فيها على أناس جدد لا يعرفهم ولا يتاح له التعرف عليهم في مكان آخر، ففي هذه التجربة نجد عشرة مشاركين متفاهمين ويشكلون عائلة متعاونة مع بعضها، يتشاورون ويتعارفون على مشاكل ومستلزمات العمل خلال جلساتهم البسيطة أو حتى في مواقع العمل من خلال الاطلاع وتبادل الحديث، فأنا شخصيا أتعلم من كل سمبوزيوم الشيء الكثير، وأتفادى أخطائي في السمبوزيومات السابقة».
وفي حديث مع الفنان البحريني خالد فرحان، قال «بحسب معرفتي ومشاركاتي في السمبوزيومات، يتاح لي كفنان فرصة تقديم أعمال بالحجم الطبيعي والاستفادة من كل تجربة في العمل الذي أخرج به كل مرة، فالسمبوزيوم مدرسة تعليمية لكل نحات، يتمنى الكثيرون الخوض في تجربة السمبوزيوم للتعرف والاحتكاك بتجارب الآخرين، وبالتالي فإن العمل لديه يتطور».
وعلق على مجريات العمل فرحان أن «الحجر مادة مستفزة كونها حجر، تلك المادة الصلبة، ولكن في حين التنفيذ، تذلل الآلات الصعوبة بعكس ما كان يحصل عند الحضارات السابقة، التي عملت بمشقة في الحجر كي توثق تاريخها كما كان لدى الحضارات اليونانية والبابلية والفرعونية»، مضيفا «هذه هي التجربة التاسعة لي، وكون البحرين تفتقر لمادتي الرخام والغرانيت، الأمر الذي أثر على تجارب الفنانين وأنا أحدهم، ما جعلها تتمركز في الخشب أو البرونز، إلا أنه، وبفضل تكرار تجربة السمبوزيوم، فإن ذلك أسس لظهور نحاتين جدد لهم تجاربهم ولمساتهم، وهذا الشيء إيجابي وسلبي في ذات الوقت، حينما تتحول تجربة النحت إلى موضة يخوضها الجميع، ليتحول الرسامين إلى النحت، وتصبح هذه فرصة يستغلها الجميع».
ووجد خالد أن ظهور الإنترنت ساهم في إتاحة الفرص للفنان البحريني كي يطلع على تجارب الآخرين، فيما ظل مكان الكتاب الفني خاليا.
فرحان قال عن تجربته إن «كل نحات صارت له تجربة مختلفة للعمل النحتي، هناك من يعتمد على الحركة، وهناك من يعتمد على الضوء والظل، وهناك من يعتمد على الموضوع الذي هو عكس التجريد، وأنا أعود بالفضل للنحات الكبير آدم حنين أنني وصلت لهذا المستوى، فالتجربة التي اشتغلت فيها تعتمد على تكرار عنصر النصف دائرة، التي تكون في أحيان علاقة بين رجل وامرأة، وأحيانا جماعة، وربما تكون ثيمة معينة أحيانا أخرى، كما أنني أحب الاستطالة في العمل الفني، وهو ما يعطي انطباع الشموخ منذ بداية تجربتي، فالتمثال يشكل هاجس المكان، نستشعر فيه الحياة، حتى الحجرة العادية في مكان معين تأخذ انطباعا خاصا بالمكان لأنها طبيعية، فالجمال في تكوينها وشكلها».
العدد 2267 - الأربعاء 19 نوفمبر 2008م الموافق 20 ذي القعدة 1429هـ