العدد 1805 - الأربعاء 15 أغسطس 2007م الموافق 01 شعبان 1428هـ

أزماتنا البيئية وأمننا الغذائي... إلى أين سائرون؟

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

لأعترف أولا بصفتي كاتبا صحافيا مشغوفا بالشأن السياسي المحلي والدولي بتقصيري الجم فيما يتعلق بالقضايا والمسائل البيئية على رغم توافر خلفية لا بأس بها - في اعتقادي - من المعلومات البيئية العامة، إذ يأتي مثل هذا التقصير نتيجة للتفريط العام في الشأن السياسي وتفاعلاته الساخنة والصاخبة محليا وإقليميا وعالميا وهو شأن صناعي وتصنيعي وتركيبي من دون شك، مقارنة بوجودية وحيوية الشأن البيئي غير المتناهي!

وما يعطي مثل هذا التقصير في الاهتمام بالشأن البيئي حجمه الفادح والمخيف هو كون هذا الشأن وما ترتبط به من أزمات مصيرية كبرى لا تعهد أو تعرف ألوان التحزب السياسي ولا يداخله وجودها الحيوي أشعة التطييف والتشطير السياسي، فالشأن البيئي كما هو شأن وجود حيوي ذي أبعاد رحبة وواسعة يرتبط بصحة وملاءمة بقاء الإنسان بل يتعداه إلى سلامة وجود جميع الخلايا الحية في وسط ومحيط معينين تتفاعل مع شروطه الموضوعية العناصر والأجزاء كافة!

وبمناسبة التطرق إلى الشأن البيئي يستحسن أن أدلف إلى هذا الملف وخصوصا ما يتعلق منه بأكثر الوظائف المعيشية والمهن التقليدية تجسيدا لحيوية تفاعل الإنسان البحريني مع بيئته منذ قديم الأزل، ألا وهي مهنة صيد السمك ومهنة الفلاحة، وهي بلاشك مهن ووظائفُ وأدوات للانتماء تعكس تعلق الإنسان البحريني العضوي ببيئته على مر التاريخ، وإن كانت حال الفلاحة في شبه تدهور مستمر وانحسار بفعل المد العمراني الكاسح وهي التي لطالما ميزت هذه الجزيرة الصغيرة المتفجرة خضرة وينابيعَ ولطالما ارتبطت باسم البحرين الكثير من المنتوجات الزراعية التي يتوق إلى تذوق طعمها المميز أبناء المنطقة، فإن هذا الانحسار الزراعي الذي انطوى على ذاته فبقيت هنالك أحزمة خضراء معرضة للإزالة لكونها أصبحت مأوى للأفعال المشبوه فيها ليس أكثر سوءا من انحسار بحري موازٍ تلتهب أزماته يوميا بفعل انحسار الشواطئ البحرية المفتوحة التي لم يتبقَ منها - بحسب تقاريرَ - سوى 3 في المئة، أضف إلى ذلك ما يواجهه الصيادون من مصاعبَ وعراقيلَ جمة وأوضاعٍ معيشيةٍ سيئةٍ وقيودٍ تحد وتضيق عليهم الحصول على رزقهم!

فأي بحرين تلك التي سيغيب عنها الفلاحون والصيادون حسرة؟ والحسرة تبلغ أوجها حينما يأتي التلوث متغلغلا بسميته الدامسة في الأنسجة والشرايين البحرية كطعنة غدر قاضية تهدد مصير الصيادين ومهنتهم ذات الهوية الانتمائية البحرينية الوطيدة، كما هي هددت ونفذت تهديدها الاستئصالي بحق مخزون كبير من الأحياء البحرية يستوطن موائل لم تسلم من جرائم التلويث وممارسات الدفان والردم التخريبية باسم التعمير والعمران في شكل جشع إقطاعي مسعور وغير مبالٍ يتقلد مسمى «تنمية صناعية» لا يمكن أن تضارع تنمية حيوية مستدامة مثلتها البيئة والموارد الطبيعية والموائل البحرية في البحرين منذ فجر التاريخ حتى وقت متقدم وشاء لها بإرادة بشرية خاصة أن تتوقف وهي نقطة بليغة وصورة بلاغية رائعة أجاد استخدامها الباحث الاقتصادي عبدالحميد عبدالغفار في إحدى ندوات جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) الجادة عن «فشت الجارم»، وربما الوضع ينطبق بالمِثْل على أزمة «خليج توبلي» التاريخية التي ظلت - على رغم التشريع والتوجيه الرسمي من أعلى المستويات - عصية على الحل، ولسان حال الجميع يتساءل بحيرة ساخنة لم ولن تفتر: من ذا يتجرأ على عصيان مرسوم جلالة الملك؟ من ذا يتجرأ على تحدي توجيهات سمو رئيس الوزراء؟ من ذا يتواطأ بمنتهى التجرد الحسي والإنساني على تدمير البيئة البحرينية والتفريط في مواردها الطبيعية والتنكيل معيشيا وزعزعة الأمن الغذائي للشعب البحريني الكريم، وهو ما لا يرضي من دون شك جلالة الملك وسمو رئيس الوزراء؟

فلا يمكن أن تمر بشكل عابر تلك الحقائق والتنبؤات الخطيرة المرتبطة بسلامة واستقرار أمننا الغذائي، والتي فجرها نائب رئيس جمعية البحرين للبيئة سعيد منصور بشأن احتمال انقراض 75 في المئة من الأسماك خلال عشر سنوات نتيجة لاستمرار أعمال الردم والدفان والانتهاكات البيئية، وخصوصا ما يتعلق بالأسماك المستوطنة التي يتعلق مصيرها بمصير موائلها، وهو ما ينطبق على حال «الفشوت» البحرية ويشمل خليج توبلي في عامٍ أسودَ تميز بتصعيدات هجومية نهائية ضد البيئة البحرية وثرواتها ومواردها منذ الإعلان في الصفحة الأولى بصحيفة «الوسط» عن صفقة بيع فشت الجارم بـ785 مليون دينار بحريني، ومن ثم النفوق الكبير في أعداد الأسماك وما لفته من انتباه إلى تلوث مريع يقضي على الأنفاس الأخيرة لـ «خليج توبلي» تتسبب به محطة توبلي للصرف الصحي الذي تسبب بتكوين بقعةٍ سوداءَ كبرى، وما تلاه من كشف عن مخططات للدفان في منطقة الخليج تعزز من ثقة التخمينات بوجود مخطط تدميري يستهدف تصفية خليج توبلي عقاريا و «تنمويا»!

ولو استعرضنا في ذلك التحذيرات التي قدمها على أسس علمية الخبير البيئي والأكاديمي الكويتي مبارك العجمي من عدم تناول أسماك خليج توبلي لكونها ملوثة، وما ذكره من نفوق ثانٍ محتمل للأسماك في أغسطس/ آب الجاري تتعرض له الأسماك السطحية وتتحلل، على حين تبقى هناك أسماك ملوثة تسبح في الخليج وتشكل خطورة على صائدها ومتناولها بفعل استمرار صب المخلفات والملوثات في الخليج، فإنه لا يمكننا إلا أن نتوصل إلى أن وضع هذا الخليج الذي شبهه العجمي بـ «المريض في الرمق الأخير» بات يسجل نكبة بيئية جديدة تهدد الأمن الغذائي طالما لم يتم التدخل التنفيذي الحاسم للدولة في هذه الأزمة، التي يعني سكوتها أو وقوفها الصوري تواطؤا سلبيا على حساب الموارد البيئية والثروات الطبيعية والأمن الغذائي الذي يشمل بحتميته جميع المواطنين والبشر المقيمين في البحرين!

والأمر المستغرب هو أن يأتي رد المسئولين والمعنيين بالشأن الصحي والبيئي في هذه القضية البيئية المصيرية ذات الانعكاسات والآثار الصحية أشبه ما يكون بردة الفعل السلبية المعتمة والنافية لتلوث أسماك «خليج توبلي»، وهو الرد الذي فنده العجمي علميا في الزميلة «الوقت» وأصر من خلاله على ما توصل إليه من حقائقَ علمية اعتبرها تحديا يقع ضمن مسئوليته وأبدى فيه استعداده لإثباته! ونحن نرجو من المسئولين الأفاضل القبول بدعوة العجمي التي تأتي في صالح المواطن وكل إنسان يعيش على هذه الأرض، عسى ألا يحسب على هؤلاء المسئولين تبني مواقفَ سلبية غير واضحة وغير شفافة في قضية حاسمة لا تقبل ترددا وتأرجحا واعتاما رسميا كهذا، فيكونوا ممن أصيب بمتلازمة الاعتراف والإقرار بالكارثة ومخاطرها ودفع الدية بعد وقوع الواقعة المأسوية وهو ما ليس عنا بغريب! فكلنا يتذكر ردود الفعل الأولية على نفوق الأسماك عند جزيرة «النبيه صالح» وغيرها من مواقف لم يتسنَ لها أن تدوم طويلا في ترددها وفي تأرجحها!

ومن الضروري أن ترمي الدولة في هذه القضية الوطنية المصيرية بكامل ثقلها ومسئولياتها الأخلاقية، فهي هنا صدد مواجهة تهديدين أحدهما يمس مباشرة مواردها البيئية والطبيعية وأمنها الغذائي، والثاني هو تهديد للاستقرار الوطني، ومن الممكن له أن يتفاعل ويتطور بشكل صاخب وفاضح إعلاميا إذا ما أريد للقضية أن تظل عالقة من دون حل عاجل أو تدخل وتخضع بالتالي إلى مجسات الاستغلال والتسخير لا التدبير السياسي، وما أكثرها حينها من قرون استشعار سياسية طائفية في بلادنا!

ولا عجبَ إذا ما وجدت يوما بعض وسائل الإعلام الغربية المستذئبة معونة «جلبية» من أحد نشطاء الداخل - الخارج ليتم على سبيل المثال فبركة سيناريو سينمائي يعتبر من خلاله ما يمر به «خليج توبلي» تمييزا طائفيا عنيفا باعتباره خليجا شيعيا، والضرر والتلوث الجحيمي آتٍ من «المصب الرئيس» لمحطة توبلي للصرف الصحي، كما تم قبلها تطييف الفقر ونهب السواحل في البلاد!

لا ينبغي أبدا للدولة أن تتبع سياسة التطنيش أو «الحقران يقطع المصران» في مثل هذا المجال والسجال العام الحيوي، ولو بيع هذا الخليج لعزوة من المريخ، وذلك يرجع إلى كونها تتعامل في هذه القضية البيئية ذات الانعاكسات الصحية العامة مع مواطنين وقاطنين بشر لا خصوما وأندادا سياسيين!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1805 - الأربعاء 15 أغسطس 2007م الموافق 01 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً