ربما يختلف البعض بشأن الحيز الذي يحتله الاقتصاد في تحديد مسار تاريخ الأمم، لكن الأمر الذي لا يستطيع أن ينكره أحد هو أن الاقتصاد، بوسعه أن يقدم معلومات ثمينة بشأن نبض ذلك المسار ومستقبل اتجاهاته. ففي أوج الحرب الباردة، قضى الخبراء الاستراتيجيون الكثير من الوقت، على الأرجح، في التفكير والقلق بشأن النفوذ العسكري للاتحاد السوفياتي، لكنهم لم يخصصوا وقتا كافيا للتفكير في نقاط ضعفه التجارية، التي كانت من أهم عوامل التحولات التي ألمت به وأدت إلى انهياره ككتلة سياسية وقوة عظمى. هذه المسألة هي التي ينبغي مراعاتها عند قراءة أرقام اقتصادات الأسواق الناشئة.
وفي هذا الصدد تقول دراسة قامت بها مجلة «الإيكونومست» البريطاينة حديثا إن العالم الناشئ اليوم يساهم بأكثر من نصف الناتج الاقتصادي العالمي، مقاسا بمعادل القوة الشرائية (الذي يسمح بإدخال الأسعار الأقل في الدول الأكثر فقرا). ويفضّل الكثير من الاقتصاديين قياس الناتج المحلي الاجمالي باستخدام أسعار الصرف الحالية (التي تجعل نسبة العالم الناشئ مقاربة لـ 30 في المئة من حجم الاقتصاد العالمي). ولكن حتى باستخدام هذا المقياس، ساهم القادمون الجدد (الأسواق الناشئة) بأكثر من نصف النمو في الناتج العالمي العام الماضي. وتبيّن الكثير من الاحصاءات أن القوة الاقتصادية تغيّر مسارها بعيدا عن الاقتصادات «المتقدمة» (بصورة أساسية أميركا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان وقارة أوقيانوسيا) باتجاه الاقتصادات الناشئة، وخصوصا في آسيا.
وعلى مستوى الاستهلاك تتحدث الأرقام عن أن الدول النامية أصبحت تستهلك أكثر من نصف الطاقة في العالم وتحتفظ بمعظم احتياطي النقد الأجنبي فيه. وقفزت حصتها من الصادرات من 20 في المئة في العام 1970 إلى 43 في المئة في الوقت الحاضر.
وفي آسيا، ساعد ارتقاء الصين على دفع اليابان والهند ليقتربا أكثر من الولايات المتحدة، ودفع جنوب كوريا بعيدا عنها. والعالم الذي كان سابقا فقيرا يبذل مساعي جبارة للحصول على حقوق التعدين، محاولا شراء شركات النفط في كاليفورنيا، مساهما بنسبة أكبر من انبعاثات الكربون ومشددا على أهميته في المفاوضات الدولية بشأن كل شيء من التجارة إلى الانتشار النووي حتى رئاسة الأمانة العامة للأمم المتحدة.
من العناصر الأخرى التي تقاس بها عافية اقتصادات منطقة معينة أو مدى صلابتها هي الإنتاجية. وعلى رغم انها ليست كل شيء، فإنها كما يقول بول كروغمان، أستاذ الاقتصاد في جامعة برينستون وصاحب عمود في صحيفة «نيويورك تايمز»: «على المدى الطويل تكاد تصبح شيئا». ويرى كروغمان أن «النمو السريع لإنتاجية اليد العاملة، أي كمية الناتج أو الناتج المحلي الإجمالي لكل ساعة عمل، يتيح للاقتصاد في بلد معين تحقيق نمو سريع من دون إشعال فتيل التضخم، ويرفع من مستويات المعيشة، أو يتيح للبلدان القدرة على اختيار العمل بساعات أقل من دون المعاناة من تدني الدخل في المقابل». وتبين دراسة دقيقة وممحصة أجراها «مجلس المؤتمر»، وهو منظمة أعمال دولية، سوية مع الباحثين في جامعة غرونينغين في هولندا أن «قبضة الولايات المتحدة على المرتبة الأولى في الإنتاجية آخذة في التراخي، إذ تبين أن نمو الإنتاجية في الولايات المتحدة للعام 2006 شهد أدنى معدلاته خلال أكثر من عقد من الزمان، مع انتقال القوة الاقتصادية نحو الاقتصادات الناشئة في أوروبا الشرقية وآسيا». ويسري ذلك التفوق في الأسواق الناشئة سوية مع الناتج الاقتصادي، واستهلاك الأسر، واستهلاك الطاقة، وانبعاثات الغازات الضارة بالغلاف الجوي. إن الناتج المحلي الإجمالي لكل ساعة عمل يمكن أن يكون أعلى بكثير في البلدان المتقدمة، لكن النمو انتقل بصورة حاسمة باتجاه الاقتصادات الناشئة في أوروبا الشرقية وآسيا. وبلغ متوسط النمو السنوي في إنتاجية اليد العاملة في البلدان الـ 12 الجديدة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، التي يأتي معظمها من أوروبا الشرقية، أقل من 4 في المئة بقليل منذ العام 1995. ومنذ العام 2000 زاد متوسط نمو الإنتاجية في الصين على 10 في المئة سنويا، وفي الهند ارتفعت نسبة النمو إلى 5.2 في المئة. لكن قصة الإنتاجية ليس مجرد قصة الفرص أمام الاقتصادات الناشئة والتحديات أمام العالم المتقدم. وبحسب أبحاث «مجلس المؤتمر»، سيأتي وقت على الاقتصادات الناشئة «لا تعود فيه قادرة ببساطة على حصد المكافآت الهائلة للإنتاجية من خلال تحويل العمال من القطاعات ذات القيمة المضافة المنخفضة، مثل الزراعة، إلى التصنيع. فالآثار التحويلية الواسعة تتناقص شيئا فشيئا».
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1804 - الثلثاء 14 أغسطس 2007م الموافق 30 رجب 1428هـ