أعرف أنني دخلت بإرادتي جحر الأفاعي، حين بدأت قبل أسبوعين فتح ملف المعونات الأجنبية وخصوصا الأميركية لمصر، بكل سلبياتها وإيجابياتها، والإستفادة المتبادلة بين المانح والمتلقي!
فما كتبته وما سأكتبه في هذا المكان لم ولن يرضي المانحين للمعونة، ولا المتلقين لها، لا تستريح له الدوائر الرسمية سواء في مصر أو في أميركا، ولا تقبله بعض منظمات المجتمع المدني المصري، التي تمولها هذه المعونات، أميركية كانت أو أوروبية، ولا يقبله الكونغرس الأميركي الذي يوجه ويراقب ويعدل أوجه صرف المعونة، بما يحقق أهداف أميركا ويحمي مصالحها، ولا الإعلام الأميركي!.
وهطلت عليّ طوال الأيام الماضية رسائل واتصالات كثيرة، تعليقا أو احتجاجا على المقالين السابقين، وخصوصا مقال الأسبوع الماضي «المعونة الأميركية والتمييز بين المسلمين والمسيحيين»، قسم من هذه الرسائل يعترض على سياسة هيئة المعونة في التمييز بين المسلمين والمسيحيين عند إنفاق المعونة داخل مصر وربما من وراء ظهر حكومتها، باعتبار ذلك تدخلا من دولة أجنبية يثير شقاقا وصراعا بين أشقاء الوطن الواحد...
بينما قسم آخر من الرسائل يرى أن ما كتبناه وسجلنا حقائقه، يسيئ إلى المسيحيين المصريين، ويحرض ضدهم ويوجه لهم اتهامات غير حقيقية بتلقي بعضهم المعونة الأميركية بصفتهم الدينية!
وسنتجاوز عما ورد في بعض الرسائل الغاضبة المتعصبة بكل ألفاظها الهابطة ولغتها المتشنجة، لنستمر في معالجة واحد من أهم الملفات الشائكة في الحياة المصرية المعاصرة، ألا وهو الاستخدام السياسي للمعونة الأميركية، التي نرى أن مصر استفادت منها قليلا، بينما استفادت أميركا كثيرا...
ونبدأ بإعادة تأكيد النقاط المحورية الآتية:
1 - الكل يعلم أن هناك مشكلات متكررة بين القاهرة وواشنطن بسبب المعونة الأميركية، تتجدد في كل عام تقريبا، وتلتهب عادة بحملات التهديد بقطعها أو تخفيضها، من جانب سياسيين وبرلمانيين وإعلاميين أميركيين، بحجة أن مصر لا تؤدي المهمة التي من أجلها تعطيها أميركا المعونة السنوية، العسكرية منها تبلغ 1.2 مليار دولار، والاقتصادية التي انخفضت من 800 مليون إلى نحو 400 مليون هذا العام، بما يمثل أقل من واحد في المئة فقط من إجمالي الناتج القومي المصري، كما قالت وزيرة التعاون الدولي فايزة أبوالنجا.
2 - نحن لم نعتمد إثارة مشكلة، لأن المشكلة قائمة، ولم نختلقها، أو نتعمد أساسا التحريض ضد بعض أشقائنا المسيحيين، الذين تختصهم هيئة المعونة الأميركية، بجزء كبير من إنفاقها، تمييزا عن المسلمين، ما نعتبره تحريضا على الفتنة ضد الوحدة الوطنية، وهذا هو الخط الأحمر القاني بالنسبة لنا...
3 - من يتشكك فيما ذكرناه من حقائق بشأن هذا الإنفاق التمييزي من جانب المعونة الأميركية، نحيله إلى الوثائق الرسمية الأميركية التي اعتمدنا عليها، ولدينا الوثيقتان الأصليتان، ويمكن الحصول عليهما بنصوصهما الرسمية المقدمة للكونغرس من خلال الانترنت على موقع www.AmericainArabic.com، الوثيقة الأولى هي نص تقرير «أوشهادة» قدمها للكونغرس نائب رئيس هيئة المعونة جيمس كوندر، والوثيقة الثانية نص تقرير مكتب خدمة بحوث الكونغرس، عن أهداف وأساليب إنفاق المعونة في دول الشرق الأوسط وبينها مصر، وفي الوثيقتين حقائق وأرقام الإنفاق التمييزي على بعض المسيحيين، مع التوجه لزيادة هذا الإنفاق في العام الجديد...
4 - ومثلما ندين الآن هذا التمييز الطائفي في إنفاق المعونة الأميركية، سبق أن أدنا تدفق أموال وتبرعات من دول عربية وإسلامية، لدعم جمعيات ومنظمات إسلامية مصرية فقط، سواء مايسمى بتوظيف الأموال الإسلامية خارج رقابة الدولة، أو ما تسرب من هذه الأموال لمنظمات وجماعات متشددة دينية، مارست الإرهاب ضد المصريين مسلمين ومسيحيين!.
المهم... أن تركيزنا الآن ينصب على التنبيه والتحذير من استغلال الأموال الأجنبية، وفي مقدمتها المعونة الأميركية، لدفع مصر إلى إشعال الصراع الطائفي والديني، على النموذجين العراقي واللبناني، وها هو السوداني يدخل على الخط... ونؤمن أن ما يجري علانية هو جزء رئيسي من تنفيذ نظرية «الفوضى الخلاقة» الأميركية، فهل المطلوب أن نصمت أمام هذه الكارثة القادمة بسرعة أم نحذّر وننذّر...
ولعل سؤالنا الرئيسي كان ولا يزال هو أين دور الرقابة الحكومية المصرية، على إنفاق المعونات الأجنبية، ولماذا نقبل اختراق المجتمع وصولا للتمييز الطائفي والديني، وما هي طبيعة الشروط أو الضغوط التي تشل قبضتها عن إيقاف هذا التمييز الخطير، وإذا كانت أميركا تقدم هذه المعونة بشروطها لتحقيق مصالحها وأهدافها، فإلى أي مدى يتفق ذلك مع المصالح والأهداف الوطنية المصرية، فضلا عن القومية، وهل تمارس حكومتنا الاستخدام السياسي للمعونة، مثلما تمارسه الحكومة الأميركية، أي تأخذ قدر ما تعطى!
من باب التذكير والتأكيد على الاستخدام السياسي للمعونة الأميركية، نقول إن هذه المعونة لمصر، بدأت فعليا بهبوط الداهية الأميركي اليهودي وزير الخارجية الأميركية السابق هنري كيسنجر أرض مصر، بعيد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 المجيدة، في محاولة لاحتواء أثارها، بمناوراته السياسية وإغراءاته المالية والاقتصادية.
لكن المعونة السنوية تقررت بعد توقيع مصر و»إسرائيل» اتفاق كامب ديفيد العام 1978، ثم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية العام 1979، وجاءت المعونة لتكون «ثمن السلام» كما ذكرت الدوائر الأميركية وقتها، ولتشجيع مصر الدولة العربية المركزية على نشر الاستقرار وترويج السلام في المنطقة، ومحاربة النفوذ السوفياتي، آنذاك، ومقاومة جموح الدول العربية المتشددة مثل سورية والعراق وليبيا وغيرها...
والحقيقة أن مصر الرسمية في ظل الرئيس السادات، بدأت بعد حرب أكتوبر 1973 تحولات سياسية واقتصادية استراتيجية، وجدت فيها السياسة الأميركية توافقا مع أهدافها، مثل طرد النفوذ السوفياتي من مصر قبل حرب أكتوبر مباشرة، ثم القطيعة مع موسكو، ثم مفاجأة زيارة السادات للقدس بعد الحرب، وصولا لاتفاقي كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع «إسرائيل»، وأخيرا بدء سياسة الانفتاح الاقتصادي وكذلك الانفتاح السياسي النسبي بتشكيل الاحزاب العام 1976.
وكانت كلها توجهات سياسية عليا في مصر، بتغيير بوصلتها الرئيسية من التحالف مع موسكو والمعسكر الاشتراكي، إلى التوجه نحو واشنطن والتصالح مع المعسكر الأوروبي الأميركي، وفيما بينهما التصالح مع «إسرائيل»، وكلها متغيرات وجدت فيها أميركا «الهدية المفاجئة» على حد وصف كسينجر نفسه، فها هي مصر بكل ثقلها تأتينا بإرادتها، فيجب مكافأتها، مثلما يجب الإستفادة من دورها...
وللمرة الألف تخطئ السياسة الأميركية في حساب المواقف وفي تقدير أدوار دول مهمة مثل مصر، فقد تصورت أنها بالمعونة السنوية، تستطيع توظيف مصر تماما في إطار استراتيجيتها الكونية وخصوصا في الشرق الأوسط، لكن مصر حاولت منذ الثمانينات مع بدايات تولي الرئيس مبارك العودة إلى حالة من التوازن بين تحالفها الاستراتيجي مع أميركا، وبين ارتباطها الأكثر استراتيجية ببيئتها العربية، بين ما تريد منها وشنطن العمل كشرطي يحفظ الأمن والاستقرار والمصالح الأميركية الإسرائيلية، وبين ما يريده الشعب والتاريخ والجغرافيا والإنتماء، في الانحياز لحل الصراعات الرئيسية خصوصا الصراع العربي الإسرائيلي ومسئوليتها عنه...
وفيما بين التحالف الاستراتيجي مع أميركا ومعوناتها وأهدافها، وبين الانتماء العربي وحماية الأمن القومي والمصالح الوطنية المصرية الأصلية، تتأرجح العلاقات بين القاهرة وواشنطن حتى الآن اختلاف واتفاق، ضغوط وضغوط مضادة، ومن بين أهم أسلحة الضغوط تأتي المعونة الأميركية السنوية والاستخدام السياسي لها، بينما أهم أسلحة مصر يكمن في الرفض الشعبي العارم للسياسة الأميركية وانحيازاتها وضغوطها ومعوناتها المشروطة، وصولا للرفض الشعبي لبرامج الخصخصة والتحول الاقتصادي، وكذلك الضغط الأميركي لإجراء إصلاحات ديمقراطية مستوردة، لمجرد أن هذه الضغوط تهب من الساحل الأميركي، ضمن صفقة الاستخدام السياسي!
لكن أميركا لم تفهم حتى الآن سيكولوجية هذا الشعب الهادئ الهادر معا، الغامض المتمرد معا فقط هي تريد توظيف إمكاناته وقدراته في حماية المصالح الأميركية، من مسالمة «إسرائيل»، إلى تطويع الفلسطينين، ومن مساندة أميركا في حربها ضد العراق وأفغانستان والسودان، إلى دعمها فيما تسمية حرب الإرهاب، والتنسيق الأمني والمعلوماتي ضد ما تسميه التطرف الإسلامي، وصولا لمجابهة إيران...
وبينما تريد أميركا من مصر تلك المهمات الجسيمة، فإنها تنخر بأدواتها وأموالها وعملائها في صميم المجتمع المصري لتقلبه رأسا على عقب، وتؤلب فئاته وتكويناته على بعضها، حتى تحقق على الأرض نظرية الفوضى الخلاقة، التي تريد تدمير مجتمع من أقدم المجتمعات الإنسانية وأشدها وحدة وتماسكا، لكي يأتيها زاحفا على بطنه!
الآن... هل يكفي هذا في شرح وتفسير الاستخدام السياسي للمعونة الأميركية لمصر، أم أن الأمر يستدعي المزيد!
خير الكلام:
قال البحتري:
إذا محــاســـــني اللاتـــــي أدلّ بهــــا
كانت ذنوبي فقل لي كيف اعتذر!
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1804 - الثلثاء 14 أغسطس 2007م الموافق 30 رجب 1428هـ