لماذا بيروت مدينة محرمة، وعن أي شيء هي محرمة ؟ إنها محرمة على الفرح وموعودة بالحزن المقيم، لأن أهل السياسة في لبنان قرروا أن يقفلوا بلدهم ويرمون المفتاح في البحر الأبيض، كثيرُ من المحللين اللبنانيين يقولوا بالكثير من الجد والمعرفة أن الموضوع اللبناني مفاتيحه خارج لبنان، وهم بذلك يشيرون، وإن لم تكن الإشارة واضحة، إلى أن معظم السياسيين اللبنانيين ذوي التأثير على الوضع السياسي (أزلام) لطرف هنا أو طرف هناك، وإن لم يكونوا كذلك فإنهم يفكرون في أن يكونوا حيث لا طريق ثالث أمامهم.
عجيب أمر هذا السياسي اللبناني الذي يستجيب إلى دعوة فرنسية للاجتماع (على مستوى الصف الثاني) في باريس، ثم لا يستجيب للاجتماع على مستوى أي صف للقاء في بيروت أو في أحد منتجعات لبنان التي أصبحت لا رواد فيها بسبب هجرة المصطافين خوفا على حياتهم من نزق ميليشيات لبنان مع أن المسافة بينهم أقرب كثيرا من باريس.
إلا أن الأعجب في لبنان أن السياسيين لا يتابعون ما يقولون أو لا يأخذون ما يقولوا على محمل الجد. وحتى لا يذهب الكلام نظريا تعالوا نستعرض بعض المظاهر السياسية اللبنانية غير العقلانية وغير المنطقية على حد سواء، فهي أبعد ما تكون بين القول والفعل.
المعارضة (ونسمي الأمور كما تسميها الأطراف اللبنانية) تقول إن حكومة السيد فؤاد السنيورة، حكومة (غير شرعية) أو الحكومة (فاقدة الشرعية) كلام جميل. ولكن هذه الحكومة تدعو إلى انتخابات فرعية، بسبب اغتيال عضوين من أعضاء البرلمان اللبناني، فيدخل طرف من المعارضة في المعركة الانتخابية في المتن، ويقبل الفائز المعارض أن يعلن فوزه وزير الداخلية في الحكومة (فاقدة الشرعية) من وجهة نظره. بل إن رئيس مجلس النواب المعارض، يقبل (برتوكوليا) كما قيل، أن يعترف بالنائبين المنتخبين التي وقعت مراسيم الدعوة لانتخابهم (الحكومة فاقدة الشرعية)، واحد من المعارضة وواحد من الأكثرية ينظما إلى المجلس النيابي ويعترف بهما.
أما الأدهى في مسرحية ألا معقول اللبناني، هو أن يذهب وزير الخارجية المستقيل، إلى ديوان الوزارة، ليغير قرارات وقع عليها الوزير المختص بتسيير أعمال الوزارة؟ بمعنى آخر يستقيل الوزير، وتسمى الوزارة (فاقدة للشرعية) لأن الطائفة التي يمثلها الوزير غير ممثلة، ثم يذهب متى ما حلا له، أو أي وزير غيره، إذا اعتبرنا ذلك سابقة، إلى ديوان الوزارة المختصة ليوقع على قرارات يريد تمريرها! هل يحدث هذا في بلد يسمي نفسه بلدا (مؤسساتي) بأي معنى من معاني المؤسساتية! إذا أردتم شيئا آخر أهم، فإن الكثير من سفراء لبنان (المنقولين أو المعينين) لا يستطيع أحدهم أن يغادر مكان عمله أو أن يقدم أوراق اعتماده للبلد الجديد، لأنه ببساطة، أوراق السفير غير مكتملة، فهي لا تحمل توقيع رئيس الجمهورية، اللازم قانونا لاستكمال أوراق السفير، إذا سار الأمر على ما هو عليه لفترة يصبح سفراء لبنان في العالم سفراء بلا أوراق رسمية! إن أردتم لامعقول آخر، هو أن بعض القوى السياسية اللبنانية بالغة النفوذ بسبب ما تختزنه من سلاح تمدد خطوط هاتف وخطوط كهرباء لحسابها، خارج الدولة، كل ذلك إضافة إلى استنزاف جيش لبناني صغير وضعيف التسليح في معركة زواريب، هي بطبيعتها تستهلك قوى أكبر الجيوش وأكثرها تسليحا وتدريبا، فمعارك المدن لا تسويها الجيوش النظامية إلا في حالة واحدة،وهي دك الأبنية على ساكنيها.
حتى قلب الأم في القصة التراثية لا يوجد في لبنان، القصة المعروفة أن سيدتين اختلفتا على طفل، فادعت كل منهما أن لها الحق المطلق فيه، وعندما احتار القاضي، قرر أن يقطع الطفل نصفين وتأخذ كل واحدة النصف، صرخت ألام الحقيقية متنازلة عن الطفل للأخرى، حتى لا يفقد حياته، قلب الأم ذاك لا يوجد في قلوب الساسة اللبنانيين، فالوطن إن تمزق لا أحد يهلع أو يعترض ويقدم القليل من التنازل، وهو تنازل بالغ الصغر، إن حسبنا قيمة الأوطان.
القراءة الحقيقية لكل ما يحدث في لبنان أن البلد ذاهب بانجراف واع أو من دون إرادة، إلى مسار يمكن تسميته (التقسيم الناعم) للبلاد، الذي ينتهي أن يصبح كل فريق على تلة عالية من التراب اللبناني، ويصيح في الفريق الآخر أن ما هو عليه الحق، وغيره على الباطل.
إن كانت المقولة الشائعة إن السياسيين اللبنانيين يأتمرون من الخارج، فلا حاجة إذا للوطن، وكل الحديث عن العيش المشترك واحترام الآخر، ورسالة لبنان الحضارية، والوطن الفكرة، فهي أحاديث للاستهلاك لا غير. لقد أصبحت بيروت، عاصمة الوطن، مدينة محرمة على الآخرين، كما أصبح لبنان المحجة السابقة للعرب والعالم، بلدا مهجورا، تنعق في أطراف فنادقه الكبيرة البوم، ويتعرض المارة في الشوارع إلى مفاجآت التفجير، ويقضي معظم سياسيوه أوقاتهم إما خارج البلد أو مختبئين في مخابئ لا يعرفها إلا خاصة الخاصة من المقربين، فأي بلد هذا ترى؟
أين العلة، هناك من يتبرع بالحديث عن علل كثيرة، ربما هي خارجية وربما هي داخلية، إلا أن العلة الأكبر في غياب معنى حقيقي للوطن اللبناني، والوطن اللبناني هو طائفة للبعض وللبعض الآخر مصلحة، وأمام الطائفة والمصلحة تستباح كل المحرمات الممكنة. ويأخذ السياسيون اللبنانيون بسطاء الشعب (المُعترين) إلى أماكن يوجج فيها الشعور الطائفي، ويسقى بماء المصالح الآنية، فتسير الجموع بغير وعي لتخريب الوطن، ولا يهم بعد ذلك ما يبقى ليكون لبنان.
إذا مشكلة لبنان ليس في شكل وزاراته، وليس فيمن يجلس على كرسي رئيس الجمهورية، مشكلة لبنان في وعيه كونه وطنا أو مزرعة، وهو أمر لم يستطع أحد حتى الآن أن يقدم أجندة بهذا المعنى (الوطن) في حين أن أجندة المزرعة ماثلة. لا يستطيع أي طرف أن يقدم (الوطن) لأنه إن تجاوز المصلحة والطائفة، لم يعد له مكانا في الاوركسترا السياسية اللبنانية، ولأن الالتصاق بالطائفة والمصلحة هي دستور العمل السياسي، لهذا فقط تستطيع قوى خارجية ترغب في رحمة لبنان أو عذابه، أن تجد لها مكانا للمناورة سواء بالتأثير أو بالسيطرة، وهي تفعل ذلك بترحيب شديد من واقع لبنان السياسي.
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1803 - الإثنين 13 أغسطس 2007م الموافق 29 رجب 1428هـ