في مثل هذا اليوم من العام الماضي، توقفت حرب تموز وهدأت مدافعها، ولكن لم يتوقف الجدل حولها. وهو جدلٌ لم يحسمه اللبنانيون، للتضارب بين حسابات الدولة ومصاريفها، ومنطق المقاومة وعنفوانها، فضلا عما تسببه الحرب العاصفة من تشويش على بوصلة الكثيرين.
جردة الحساب تتضح مع الأيام... ففي هذه الحرب نجح العدو في تدمير البنية التحتية اللبنانية بامتياز، ولكنه فشل في تحقيق أهم الأهداف المعلنة: القضاء على حزب الله وقياداته، وتدمير قدراته الصاروخية، وإعادة الجنديين من دون شروط. وهذا الفشل يترجم على انه انتصار لحزبٍ خاض حرب عصابات أرهقت جيشا نظاميا متفوقا جوا وبرا وبحرا، وكبّده خسائر موجعة لأول مرة في تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية، بعد ملحمة صمد فيها 3 آلاف مقاتل لمدة 33 يوما، وأسقط من الإسرائيليين ما يفوق عدد قتلاهم في أي حرب خاضوها منذ 1948.
في هذه الحرب... استنفدت «إسرائيل» كل قوتها الضاربة خلال الأيام الأربعة الأولى، فلم يعد أمامها إلاّ المزيد من تدمير المدمّر وإعادة قصف المقصوف. وعندما قال عضو قيادة الأركان بالجيش الإسرائيلي ايدو نيهوشتان: «إذا كنتم تنتظرون ظهور علم أبيض من أحد خنادق حزب الله، فأؤكد لكم أن هذا لن يحدث، فهم يمضون إلى آخر الطريق»، لم يصدقه حينها أحد. وهكذا وجدوا أنفسهم يخوضون أطول حرب في تاريخهم، بعد أن كانت حروبهم خاطفة كالسكين، أطولها انتهت في خمسة أيام، بإخضاع أربع دول عربية، وتركيعها تركيعا استمر أربعين عاما، حتى باتت تتسوّل مشروعات السلام!
ملحمة الصمود استمرت حتى اليوم الأخير، ومن تابع يوميات العدوان سيشده تصاعد الأعمال العسكرية من الطرفين. وعندما فكّر أولمرت في التوقف في منتصف الطريق، بعد أسبوعين، هرعت إليه كوندوليزا رايس لتشجّعه على الاستمرار كي يشتد المخاض، ووقف معه بلير لاكتمال ولادة «الشرق الأوسط الجديد». حتى داخل «إسرائيل»، كان هناك تأييد شعبي مطلق لأولمرت بداية الحرب، ولكن لم تضع الحرب أوزارها إلاّ وتبخرت نصف شعبيته، مع شعورٍ عامٍ يأكل قلوب الإسرائيليين، بأنهم أمةٌ جريحةٌ منهكة تفتقر إلى قائد وجيش قوي. وفي آخر استطلاع تبين ان أولمرت لا يحظى بأكثر من 3 في المئة من الأصوات، بعد أن تيقنوا أنه أغبى رئيس وزراء في تاريخهم كما قال نصر الله.
على الجانب الآخر... خرج حزب الله، كـ «أفضل حركة مسلحة (ميليشيا) في العالم»، حسبما كتبت «واشنطن بوست» في اليوم التالي لتوقف الحرب. وأشارت الصحيفة الأميركية إلى أن «فشل المخابرات الإسرائيلية في اختراق صفوف الحزب يمثل جزءا من ثقافة الحزب القائمة على السرية والكتمان الشديد ومبدأ التآخي الإسلامي».
استمرار تلفزيون «المنار» في البث من استديوهات سرية كان أحد إلهامات الحرب، ومثال آخر على الاستعداد الكامل للمعركة، فالملاحم لا يصنعها الخائبون، وإنما هي ثمرة جهود وجهاد تهتز لهما الجبال.
عامٌ مضى... اختفى خلاله بلير، وبلعت رايس لسانها، وأطيح برأس دان حالوتس (رئيس هيئة الأركان)، وسقط وزير الدفاع بيريس الذي هدّد نصر الله بأنه لن ينساه أبدا ولكن حدث العكس! وأصدرت «لجنة فينوغراد» تقريرها الذي أدان قيادات الجيش الذي لا يقهر، ونخبةٌ سياسيةٌ ضائعة، بين مدّعي البطولة (نتنياهو) المطالب باستخدام مزيد من التدمير، وبين مدّعي الحكمة (باراك) الذي تمنى قصفا مركزا، ثم التوقف أسبوعين لإعطاء الفرصة لحزب الله لرفع الراية البيضاء وإعلان الاستسلام!
وأنت تتأمل في عملية أسر محدودة، حوّلتها الحماقة الإسرائيلية إلى حرب شاملة، فتجد العبرة فيما قاله الله عزّ وجل: «وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرا كَانَ مَفْعُولا» (الأنفال:42).
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1803 - الإثنين 13 أغسطس 2007م الموافق 29 رجب 1428هـ