العدد 1802 - الأحد 12 أغسطس 2007م الموافق 28 رجب 1428هـ

خطوة فرنسية - أميركية لفترة ما بعد شيراك

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اللقاء الذي انعقد بين الرئيسين الفرنسي والأميركي في ولاية ماين بمناسبة قضاء نيكولاي ساركوزي عطلته الصيفية على مقربة من إقامة جورج بوش في منزله العائلي ليس مصادفة. فاللقاء يتوج سلسلة إشارات سياسية أطلقها سيد قصر الإليزيه الجديد بعد انتخابه في نهاية عهد الرئيس السابق جاك شيراك. ومنذ لحظة إعلان فوزه بالرئاسة أعلن ساركوزي أن الولايات المتحدة تستطيع الاعتماد على فرنسا. وكان الإعلان إشارة واضحة عن البدء في تدشين مرحلة جديدة في العلاقات تتجاوز فترة شيراك التي اتسمت بالتوتر أحيانا والحساسية الشخصية أحيانا أخرى.

بوش يمر في فترة صعبة وهو فعلا بحاجة إلى صديق قوي يرأس دولة أوروبية كبرى تعوض عليه خسارته إسبانيا ثم إيطاليا وأخيرا بريطانيا. إلا أن ساركوزي لم يكن كما أراد بوش وخصوصا في مرحلة تشهد فيها العلاقات الأميركية - الروسية درجة من التوتر.

ساركوزي يختلف عن شيراك ويمتلك أولويات لا تتوافق مع جدول أعمال الرئيس الفرنسي السابق، ولكنه أيضا ليس قريبا إلى حد التطابق مع الاستراتيجية الأميركية في «الشرق الأوسط». فهناك تفاهمات وتقاربات على أكثر من ملف ساخن من دون أن يعني الأمر أن فرنسا تخلت عن تحفظاتها السابقة عن مبدأ الحرب على العراق وتداعياته السياسية والأمنية. كذلك ظهرت فجأة لدى ساركوزي توجهات غير متوقعة من ناحية طموحه الشخصي نحو تطوير علاقات خاصة مع دول شمال إفريقيا العربية (الجزائر وتونس وليبيا) الغنية بالنفط والغاز أو القريبة جغرافيا (سياحة وتجارة واستثمار وصفقات تسلح) من شواطئ فرنسا الجنوبية.

فكرة «اتحاد دول غرب البحر المتوسط» غير جادة، ولكنها شكلت محاولة لإظهار الموقع الفرنسي الخاص في حوض حضارات يبتعد جغرافيا عن ألمانيا وبريطانيا وروسيا وتلعب باريس فيه ذاك الدور المميز في منطقة حيوية واستراتيجية. ورقة البحر المتوسط التي تمثلت في جولات وزيارات ولقاءات واجتماعات متبادلة بين المسئولين الفرنسيين ورؤساء الدول العربية - المتوسطية كانت رسالة من ساركوزي إلى بوش تؤشر إلى وجود بدائل تستطيع باريس التعامل معها في حال استمرت واشنطن في سياسة تهميش الدور الأوروبي وموقع فرنسا في صوغ قرارات القارة.

لم تقتصر الورقة المتوسطية من مغربها إلى مشرقها على مجال تبادل الزيارات بل تجاوزت العلاقات البروتوكولية الى درجة سياسية أعلى تمثلت في مبادرات فرنسية مستقلة نسبيا حاول قصر الإليزيه تأسيس منهجية مغايرة عن تحالفات العهد السابق. فالرئيس ساركوزي حرص على القيام بجولة من الزيارات العربية والإفريقية، وقام بلعب دور في ترتيب الإفراج عن الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني، واستقبل الرئيس المصري حسني مبارك في باريس وبحث معه الكثير من الملفات الساخنة في المنطقة بدءا من العراق إلى لبنان وفلسطين ودارفور.

هذه الحركة السياسية والدبلوماسية وما رافقها وأعقبها من اتصالات خاصة مع ألمانيا ثم استقباله رئيس الحكومة البريطاني الجديد غوردن براون في باريس رسمت للرئيس الفرنسي الجديد شخصية خاصة ومستقلة عن السابق، ولكنها أيضا حددت شروط التعاون بين الدولتين الأميركية والفرنسية. فالحركة التي قام بها ساركوزي كانت ضرورية لترسيم حدود المصالح المتبادلة بين الطرفين في المستقبل. والصورة التي ظهر عليها سيد الإليزيه الجديد أعطته ذاك الثقل المطلوب تأكيده قبل قضاء عطلته الصيفية في ولاية أميركية وترتيب اللقاء العائلي وغير الرسمي مع بوش. واللقاء الذي جاء بعد هذه الحركة الدبلوماسية/ السياسية المتوسطية والأوروبية أوضح حدود ذاك التصريح بشأن صداقته لواشنطن وإمكان اعتماد أميركا على فرنسا. معنى التصريح اختلف الآن عن لحظة إطلاقه بعد الفوز. والاعتماد الذي قصده ساركوزي ليس تخلي فرنسا عن دورها وموقعها ومصالحها وإنما مشاركتها الولايات المتحدة في قراراتها السياسية وربما الاستراتيجية.

حتى الآن تبدو خطوات ساركوزي حذرة، ولكنها في الإجمال أكثر أميركية من شيراك، وبالتالي يمكن اعتبار ذاك اللقاء العائلي الودي في ماين بداية تأسيس علاقات أميركية - فرنسية تتجاوز العهد الشيراكي. ومثل هذه الخطوة التأسيسية يمكن أن تؤشر إلى وجود نهج جديد في التعامل مع القضايا الدولية والملفات الساخنة في «الشرق الأوسط».

نقاط ومؤشرات

ما النقاط التي يمكن أن تتوافق عليها السياسة الفرنسية مع الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة؟

أوروبيا تبدو فرنسا حريصة على الاحتفاظ بدور الوسيط بين القارة وروسيا وأوروبا والبحر المتوسط كما هي حال بريطانيا التي تحرص على تقديم دورها بصفته ذاك الجسر الأوروبي الذي يربط ضفتي الأطلسي. فإذا كانت بريطانيا هي الوسيط بين أوروبا وأميركا ففرنسا أيضا هي الوسيط بين أوروبا وروسيا من جهة وأوروبا وإفريقيا الشمالية العربية من جهة أخرى. هذا التوسط الأوروبي - الأميركي لا يقتصر على روسيا وغرب المتوسط وإنما يمتد فرنسيا إلى شرق المتوسط وعلاقات باريس التقليدية والتاريخية مع لبنان وحضوره المشرقي.

المسألة اللبنانية شكلت نقطة واضحة في تحركات فرنسا بعد مغادرة شيراك قصر الإليزيه. فالرئيس الجديد حاول تمييز سياسته من خلال توظيف علاقات فرنسا المختلفة والمتنوعة والممتدة بالانفتاح على كل الأطراف اللبنانية وصولا إلى الاتصال بالقوى الإقليمية التي تتمتع بتأثير خاص على مجموعات سياسية تنضوي تحت مظلة «8 آذار».

النشاط الفرنسي في لبنان لم يقتصر على الساحة اللبنانية وإنما اتسعت دائرته لتشمل تبادل وجهات النظر مع مصر والسعودية وسورية وإيران. وهذا النشاط أعطى خصوصية للدبلوماسية الفرنسية تمثلت في دعوة أطراف الاختلاف اللبناني إلى الاجتماع في ضاحية باريس (سان كلو) أعقبتها زيارة وزير الخارجية بيروت للاطلاع من الفرقاء مباشرة على خريطة طريق يمكن الاعتماد عليها لمنع انزلاق بلاد الأرز إلى حروب جديدة.

النشاط الفرنسي لم يثمر لبنانيا بدليل أن الأطراف لاتزال متمسكة بوجهات نظرها، ولكنه أثمر إقليميا ودوليا لأنه أعطى باريس فسحة زمنية للاستكشاف ومساحة جغرافية للتحرك والاتصال مباشرة بدمشق وطهران والقاهرة والرياض. وهذا المجال الحيوي «الشرق الأوسطي» استثمره ساركوزي دوليا لتحسين موقع فرنسا وتطوير شروط التفاوض مع الرئيس الأميركي خلال اللقاء العائلي الذي جرى في ولاية ماين.

القمة جاءت بعد مناورات (استعراض قوة) أجراها الرئيس الفرنسي في أوروبا (تطوير العلاقات مع لندن) والبحر المتوسط (طرح فكرة الاتحاد المتوسطي) و«الشرق الأوسط» وما يمثله من امتدادات إقليمية تبدأ بالملف النووي الإيراني والاحتلال الأميركي للعراق وصولا إلى العلاقات مع سورية والملف اللبناني وتعقيداته وانتهاء بالموضوع الفلسطيني وأزمة إقليم دارفور السوداني. فكل هذه النقاط الساخنة كانت مدار بحث بين الرئيسين في لقاء ماين الذين يمكن اعتباره خطوة تأسيسية لمرحلة ما بعد العهد الشيراكي. ولهذا يتوقع أن تدخل السياسة الفرنسية مرحلة جديدة من التنسيق مع الولايات المتحدة بعد أن أنهى ساركوزي ترسيم حدود العلاقات والمصالح بين باريس وواشنطن.

مثلا هل يستكمل الرئيس الفرنسي اتصالاته الخاصة بالشأن اللبناني بعيدا عن الرقابة الأميركية؟ وهل يتابع مثلا جس نبض دمشق وطهران بشأن الملفات الإقليمية باستقلال نسبي عن المشاركة الأميركية؟

هذا الاحتمال وارد إذا لم يتوصل ساركوزي إلى صيغة تعايش تضمن مصالح الطرفين. أما إذا توصل قصر الإليزيه إلى نقاط مشتركة من التفاهم مع «البيت الأبيض» فمعنى ذلك أن السياسة الفرنسية اقتربت كثيرا من الولايات المتحدة وبات على دول «الشرق الأوسط» أن تتوقع متغيرات ليست بسيطة على الشاشة الإقليمية وما تعنيه من تعديلات متبادلة في أولويات جدول أعمال الدولتين.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1802 - الأحد 12 أغسطس 2007م الموافق 28 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً